الجنوب السوري ومشاريع الحكم المحلي

في كلّ الفترات التي تتصاعد فيها الحركات الاحتجاجية في درعا والسويداء، تظهر افتراضات وتكهّنات بوجود رغبة لدى أهالي الجنوب بنوعٍ من الفيدرالية أو الحكم الذاتي أو المحلّي، ويُساق لتدعيم وجهة النظر هذه عدد من الشواهد، منها تصريحات سياسيين في الدول المجاورة، ومنها آراء فرديّة تُنسب لسياسيين محليين وغيرهم. اللافت في الأمر أنّه ما من مركز دراسات أو مؤسسة تخصصية، تكبّد عناء القيام ببحث علمي يُظهر أسس هذا المشاريع ،إن وجدت، كأن تقوم ببحث استقصائيّ مثلاً، يطرح من خلاله على أهل المنطقة استبيان يمكن أن يوصل إلى معرفةٍ حقيقيةٍ برغبات السكان من جهة، وبإمكانية تنفيذ ذلك في الواقع بكلّ تعقيداته من جهة ثانية.

سنحاول في هذه المقالة إلقاء نظرة على إمكانيّة قيام أهل الجنوب بإدارة شؤونهم محلياً، كما هو الحال في منطقة شمال شرقي سوريا. وللوصول إلى معرفة الواقع جيداً في هذا المقام، لا بدّ لنا من التطرّق إلى تجربة سابقة في حوران جاءت تحت مسمّى “المبادرة من أجل سوريا”، فقد طرحت مجموعة من أبناء المنطقة فكرة خلاّقة لإدارة شؤونها، إذ كانت قرابة 70% من مساحة مناطقهم لا تزال خارج سيطرة النظام منذ مطلع عام 2017.

وتلخّص مشروع المبادرة بفكرة بسيطة، تقوم على مبدأ انتخاب “مجلس تمثيلي” من أهالي المنطقة، وفق نسبة ممثلين عن كل قرية ومنطقة ومدينة حسب عدد سكانها. وهذا المجلس يكون بمثابة الهيئة الشعبيّة العليا، ذات الشرعية التمثيلية الحقيقة والوحيدة، بوصفها منتخبة من أهل المنطقة مباشرة.

وكان من المفترض أن تصبح مهمة هذا المجلس الأساسيّة هي الإشراف والرقابة على جميع القوى المدنية والعسكرية الموجودة في المنطقة، من أجل ضبط عملها وفق معايير تخدم الصالح العام، ومنع التجاوزات في إدارة شؤونها، ومحاسبة القائمين عليها وتغييرهم عندما يقتضي الأمر.

اقترح المبادرون مسوّدة دستور محلي أو ورقة مبادئ أسموها “وثيقة العهد”، وقد تضمّنت في متنها مبادئ أساسيّة عديدة، وكان أبرزها الحفاظ على وحدة سوريا، وتحقيق أهداف الثورة المتمثلة بالانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، وبناء دولة المواطنة القائمة على العدل والمساواة واحترام الحقوق والحريات؛ فاستمرّ النقاش بين الفاعلين من أهالي المنطقة مدة تجاوزت نصف سنة، إلى أن تمّ إيقاف المشروع قبل دخوله حيّز التنفيذ، وكان السبب الرئيس في ذلك هو الهجوم الشرس الذي تعرّض له المبادرون من قبل جميع المتضررين من المشروع ومن بعض من لم يستوعبوا فكرته. ولعل التُهم كانت جاهزة أيضاً كالسعي إلى تقسيم سوريا والانفصال عنها تارة، أو العمل ضمن توجيهات خارجية تارة ثانية، وسواها من اتهامات معلّبة.

أمّا الحقيقة التي أدركها غالبيّة أهل الجنوب بعد فوات الأوان، أنّهم لو كانوا دعموا هذا المشروع، لما كان وقتها “أصدقاء الشعب السوري” قد تخلّوا عنهم، ولما كانوا اتفقوا مع الروس على إعادة المنطقة إلى سيطرة النظام.

في هذه الأثناء، وبعد مضيّ ست سنوات ونيّف على تلك المحاولة، تعود إلى الواجهة فكرة الحكم المحلي للمنطقة الجنوبية، لكن هذه المرّة بعد أن جرت مياه كثيرة وسالت دماءٌ أكثر في ساحاتها. لقد ثبت للجميع بما لا يدع مجالاً للشك، بأنّ الروس قد خدعوا نظرائهم الأميركيين عندما أطلقوا تعهداتهم بمنع الانتشار الإيراني في المنطقة، إذ باتت قوات الحرس الثوري الإيراني وقوات حزب الله على بعد مرمى حجر من حدود الأردن وإسرائيل، وغدت المنطقة معبراً رئيسياً للموادّ المخدرة من لبنان وسوريا نحو دول الخليج العربي. بل ثمة مؤشرات على أنّ التهريب لا يقتصر على المخدّرات، بل يشمل أيضاً السلاح والذخائر التي ستلعب يوماً ما دوراً مهمّاً في تقويض الأمن في الجوار السوري. ثمّ إنّ فداحة الأمر تبيّنت بشكل واضح بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فما كان سابقاً بمثابة تسليمٍ للروس باعتبار سوريا ضمن مجالهم الحيوي، بات الآن عقدة منشار وعقبة يصعب تدارك نتائجها الكارثية؛ فقد استفاد الروس كثيراً من موقعهم المطلّ على الأردن والخليج في حربهم ضدّ أوكرانيا، إذ تحصّل الروس على مواقف عربية أقلّ حدّة من الاصطفاف خلف حلفائهم التقليديين في الغرب.

مجدداً يجد أهل المنطقة الجنوبية من سوريا أنفسهم محطّ أنظار دول الجوار، وهم بكلّ تأكيد وصلوا، والكثير من السوريين، إلى قناعة تفيد بأنّ سوريا لن تعود أبداً كما كانت قبل عام 2011 دولة شديدة المركزية، ومحكومة من نظام متحالف مع منتفعين من كل الملل والقوميات والأديان والطوائف، وأنّ زمن الديكتاتورية والعبوديّة قد ولّى بغير رجعة، وهذا بالذات يجعل أوّل مقومات المشروع متوفّرة والمتمثّل بالإرادة الشعبية شبه المكتملة، والحاجة المحليّة والإقليمية والدولية لتخليص المنطقة من براثن نظام الأسد وداعمَيه، الإيراني والروسي، وإعادة المنطقة لأهلها كي تتم إدارتها من قبلهم بالطريقة التي تحفظ مصالحهم ومصالح غيرهم من السوريين وشعوب دول الجوار بنفس الوقت.

وملاحظ أيضاً، إن بعض التقارير أشارت إلى إقرار رأس النظام بجدوى مسألة اللامركزية العام الماضي، وهذا القبول، وإن كان سيُفرغ من محتواه عند التطبيق العملي، إلا أنّه مؤشّر إضافي على نضج الظروف الموضوعية لهذا الطرح.

تستند المنطقة الجنوبية على مقوّمات أولية لا بأس بها لإنجاح مشاريع الحكم المحلّي، فكثير من أهلها مغتربون منذ عشرات السنين، وهم قادرون ليس فقط على إعانة أهلهم على الحياة هناك الآن، بل وعلى إعادة إعمار ما هدّمه نظام الأسد بحربه على الشعب، فضلاً عن أن المنطقة زراعيّة بامتياز، وتتوفّر فيها مصادر كبيرة للمياه الجوفيّة، كما إنها عبر حدودها مع الأردن تشكّل بوابة سوريا على الخليج وشمال أفريقيا، الأمر يساهم في إنعاشها بالتبادل التجاري، وتلقّي المساعدات، خاصّة النفط والطاقة، من الأشقاء العرب. ويضاف إلى كل ذلك اتصال الجنوب بشمال شرقي سوريا عبر بادية السويداء الشرقية ومنطقة التنف ما يجعل من تكاملها معها أمراً يسيراً حال توفّر بعض الشروط الإضافية لذلك.

فهل ستنضج الظروف لاحقاً، وتسفر عن ولادة إقليم جنوبي ذي حكم محلّي وإدارة ذاتية، كما هو الحال في شمال شرقي سوريا؟ هذا ما ستُنبئنا به الأيام.