فصل من طفولة فاشيتنا…

موفق نيربية

في السنوات الأخيرة من حياة أنطون المقدسي، الذي أعتقد أنه جدير بلقب “المعلّم” أكثر من كثيرٍ من المثقفين السوريين؛ كان يعرب عن نيته الاهتمام قبل فوات الأوان بكتابة دراسة عن الأصول الفاشية أو النازية العميقة في عقل حزب البعث وتاريخ تأسيسه ونموّه. كان أحد معوقاته عن ذلك تردّد بعض أصدقائه أو تلاميذه بسبب امتناعهم عن الخروج من” قوميتهم” على الطريقة القديمة.

وفي الحقيقة المرّة، أنّ الأحزاب الشعبية أو الشعبوية الأربعة التي نشأت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في المشرق: الشيوعيون ١٩٢٤، والإخوان المسلمون ١٩٢٨، والحزب السوري القومي الاجتماعي ١٩٣٢، وحزب البعث ١٩٤٧؛ هذه الأحزاب جميعها استلهمت النمط الفاشي ثمّ النازي، بالروح القومية العالية النبرة، والانضباط الحديدي مع استعداد كبير للتحول إلى العمل العسكري.

حتى الكتلة الوطنية، المعروفة بنغمتها الديمقراطية والتي درس ما يعادل ربع مؤسسيها القانون الدولي في الغرب، كلّفت فخري البارودي “شيخ الشباب” بتأسيس “القمصان الحديدية”، أداة الانضباط الضاربة للكتلة في الشارع. كما كان بعض الأحزاب يتبنّى التحية على الطريقة النازية بالأيدي المرفوعة عالياً، كالحزب التعاوني السوري. كان لدى الإخوان المسلمين اهتمام خاص بالكشافة والتدريب الرياضي والعسكري تحت شعار “وأعدّوا”، أما السوريون القوميون فقد اهتمّوا بتنظيم محاربين لهم في الجيش، كما فعل البعثيون بعدهم، وكذلك الشيوعيون ولو بشكل أقلّ، تحضيراً لانقلابات واحتمالات المستقبل.

أساساً، ورثنا العقلية الألمانية منذ أيام العثمانيين، حلفاء الألمان المعتمدين عليهم في كلّ ما يحتاجونه من الغرب من تقنية حديثة وشغل متقدّم أو انضباط وتدريب عسكري. وانقسم الناس في الحرب الكونية الأولى بين من ظلّ على عهده القديم بين الترك والألمان، ومن ارتمى بقوة بالاتّجاه الآخر لدى البريطانيين، وبقي البعض اللبناني على عهده القديم مع الفرنسيين. انتصر البريطانيون والفرنسيون في نتيجة تلك الحرب، وابتدأ عهد من الكولونيالية المُقنّعة باسم الانتداب قانونياً، مع وجود وعد من اللورد بلفور لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.

كانت الحرب الكونية الثانية مناسبة أكبر لذلك الميل القومي نحو الفاشية والنازية، الذي تنامى أيضاً بفعل الوطنية وروح التحرّر والاستقلال. كان البريطانيون والفرنسيون مستعمرينا آنئذٍ، والألمان أعداءهم الذين فجّروا الإعجاب المندهش بانتصاراتهم الصاعقة في العامين الأوّلين لتلك الحرب، بين أولئك التوّاقين للتحرّر الوطني.

عام ١٩٤١ كان عاماً مُمَيّزاً بين أعوام الحرب، بانتصارات ألمانية نتج عنها احتلال جزء كبير من أوروبا، واندفاع باتّجاه الاتّحاد السوفييتي شرقاً للسيطرة على أرض الثروات الطبيعية فوق الأرض وتحتها، الأرض ذاتها التي يشكّل جزءاً منها مسرحُ عمليات حرب روسيا على أوكرانيا حالياً.

لأسف أجدادنا أولئك- لا أسفنا- كانت استجابة الألمان لصداقتهم أضعف ممّا أرادوا. حتى ذلك الانقلاب اليتيم الذي اتُّهم به الألمان، الانقلاب القومي العربي الذي قام به رشيد عالي الكيلاني في العراق ذلك العام، كانوا قد فوجئوا به في الواقع، وحاولوا تدارك الأمر باحتضان أبطاله بالسرعة الممكنة: الكيلاني ذاته، وفوزي القاوقجي. في ذلك العام- ١٩٤١- خرجت كوكبة من الشباب القومي في حماة خصوصاً- حوالي المائة- نجدةً للكيلاني في بغداد، لم تصل إلّا حين انتهـى الانقلاب وفَشِل.

حين جُرح القاوقجي في بادية الشام أثناء عودته من العراق، تمّ نقله بكفاءة عالية وبالطيران الألماني إلى ألمانيا لمعالجته. واستقرّ بعدها في برلين. قيل إنه عمل بمرتبة ضابط في قيادة الجيش النازي مسؤول عن المسألة الفلسطينية، التي تجمع ما بين العرب والألمان في بؤرة اهتمام واحدة. وأعتقد أن الرجل قد ملأته الحسرة آنذاك وربما الغيرة من المنزلة الأكبر التي تعامل فيها النازيون مع” الآخر” الذي حلّ في برلين أيضاً في الوقت نفسه تقريباً.

كان الشيخ أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا لفلسطين. وربّما كان لعمامته المؤثّرة وعداوته العميقة للبريطانيين واليهود وعناصر شخصيته دور في تقدير أهميته الاستراتيجية في كلٍّ من إيطاليا موسوليني وألمانيا هتلر.

وقد أثار بنيامين نتنياهو منذ بضعة أعوام موجة من ردود الفعل العنيفة عندما جادل بأن المحرقة كانت من بنات أفكار مفتي القدس الحاج أمين الحسيني، وادعى أن الأخير قد اقترح قتل اليهود (بدلاً من مجرد طردهم) في محاولة منه لحرف تاريخ المحرقة، بشكل قسري وإيديولوجي أثار غضب كثير من اليهود أنفسهم، الذين عادوا للمحضر الرسمي لاجتماع هتلر والحسيني، وما دار فيه من حديث، وأكّده عموماً ما ورد في مذكرات المفتي نفسه لاحقاً.

جرى ذلك اللقاء في ٢٨ تشرين الثاني/نوفمبر من العام ذاته ١٩٤١، وبدأه المفتي بشكر الفوهرر على الشرف الكبير الذي منحه له باستقباله، ثم أضاف” أن الدول العربية على قناعة تامة بأن ألمانيا ستنتصر في الحرب وأن القضية العربية ستزدهر حينها. والعرب أصدقاء طبيعيون لألمانيا لأن لهم نفس أعدائها، الإنجليز واليهود والشيوعيين. لذلك هم على استعداد للتعاون مع ألمانيا بكل قلوبهم ويودّون المشاركة في الحرب، ليس فقط من خلال ارتكاب أعمال التخريب والتحريض على اندلاع الثورات، ولكن أيضاً بشكل إيجابي من خلال تشكيل فيلق عربي.”

واقع الحال كان مختلفاً، يتضمّن أولاً مشكلة التأخّر والتقدم، مشكلة الحداثة والدولة الحديثة، ومن ثمّ الاستقلال والمضمون الإنساني؛ في حين كان التركيز العربي منصبّاً على الصراع المباشر والمصالح المنغلقة، حتى في القبيلة والطائفة والتمحور على الذات، وكلّ الإرث العثماني والمملوكيّ وأبعد منهما إلى وراء!

ما كان يريده الشيخ من هتلر، وكرّر طلبه بجرأة أكثر من مرة، هو أن يصدر تصريح ألمانيّ يتضمّن الإعلان عن دعم الثورة والطموحات العربية إلى الاستقلال، والكفاح ضدّ اليهود والبريطانيين والشيوعيين، الذين أكّد الطرفان على كونهم أعداء مشتركين. وربّما أراد المفتي أن يحصل على إعلان يوازن إعلان بلفور، سيكون بمثابة إلغاء عند انتصار ألمانيا في الحرب الدائرة. لكنّ هتلر تمنّع عن الموافقة على ذلك، وطلب أن يُعتبر كلامه الشفهي الثنائي المغلق بمكانة التصريح والوعد. لماذا تمنّع؟! ربّما لم يحسم أمره نهائياً في تلك اللحظة ما بين تصفية اليهود إجمالاً، أو إبقاء الباب مفتوحاً للناجين منهم حتى يهجروا أوروبا إلى فلسطين، أو أيّ مكان بعيد… ربما!

ببعض التفصيل، لم يرغب هتلر في أن تندلع أية ثورة عربية، وعلى الأغلب لم تكن لديه ثقة بذلك، بانتظار الوقت المناسب. وقد حدّد ذلك الوقت المناسب بالكلمات التالية:

” ألمانيا حالياً منخرطة في صراع حياة أو موت مع حصنين للقوة اليهودية: بريطانيا العظمى وروسيا السوفياتية. من الناحية النظرية، هناك فرق بين رأسمالية إنكلترا وشيوعية روسيا السوفيتية. لكن في الواقع، يسعى اليهود في كلا البلدين وراء هدف مشترك. هذا هو الصراع الحاسم. على المستوى السياسي، يظهر ذلك بشكل رئيس على أنه صراع بين ألمانيا وإنكلترا، لكنه من الناحية الأيديولوجية معركة بين الاشتراكية القومية واليهود. ولا حاجة للقول إن ألمانيا ستقدم مساعدة إيجابية وعملية للعرب المنخرطين في الصراع ذاته، لأن الوعود الأفلاطونية عديمة الجدوى في حرب البقاء أو الدمار حيث اليهود قادرون على حشد كل طاقات إنكلترا لتحقيق غاياتهم.”

” ثم أدلى الفوهرر بالبيان (الشفوي) التالي للمفتي، وطلب منه كتمانه عميقاً في أعماق قلبه:

١- هو( هتلر) سيواصل المعركة من أجل التدمير الكامل للإمبراطورية اليهودية الشيوعية في أوروبا.

٢- في لحظة من المستحيل تحديدها اليومَ بالضبط، ولكنها لن تكون بعيدة بأي حال من الأحوال، ستصل الجيوش الألمانية من خلال هذا القتال إلى المخرج الجنوبي من القوقاز.

٣- بمجرد حدوث ذلك، سيؤكّد الفوهرر تلقائياً للعالم العربي أن ساعة التحرير قد حانت. وسيكون هدف ألمانيا حينئذٍ فقط تدمير العنصر اليهودي المقيم في المنطقة العربية تحت حماية القوة البريطانية. في تلك الساعة سيكون المفتي شخصياً هو الناطق الرسمي الأكثر سلطة للعالم العربي؛ وعندها ستكون مهمته إطلاق العمليات العربية التي كان قد أعدّها سراً. عندما يحين ذلك الوقت، لن تبالي ألمانيا أيضاً برد الفعل الفرنسي على مثل هذا الإعلان.”

وحين حاول الحسيني تكرار طلبه بطريقة أخرى، أجابه هتلر بطريقة قاطعة بأنه قد لبّى لتّوه ذلك الطلب بهذا الإعلان السري على وجه التحديد. فما كان من المفتي إلّا أن استأذن بالانصراف ” وكله ثقة” وعرفان بالجميل شاكراً “الاهتمام الذي أبداه الفوهرر بالقضية العربية”.

أقام الحسيني في البداية في” قصر بيلفيو”؛ الذي هو الآن المقرّ الرسمي لرئيس الجمهورية الألماني؛ ثم انتقل إلى فيلا ضيافة ملحق بها عدة أبنية في منطقة فاخرة من برلين- زيليندورف-، بعد أن مارس عمله في البداية مع مساعديه من جناح في فندق أدلون الأفخم والأشهر في تاريخ ألمانيا. في حين أقام فوزي القاوقجي في شقة قريبة من وسط المدينة، ثمّ تزوج ألمانية في زواجه الثالث، واستقرّ وأنجب. عانى من السجن شهوراً بعد الاحتلال السوفييتي، ثم من منع السفر، حتى ساعده الفرنسيون في الحصول على جواز سفر مزور، عاد به إلى مصر لاحقاً، ليغدو قائداً لجيش الإنقاذ، وبطلاً لإحدى أهم الحكايات التراجيدية العربية، صمت بعدها بشكّل معبّر حوالي ثلاثة عقود ببيته في طرابلس- لبنان حتى موته… ورغم كلّ شيء، بقي لقب” البطل القومي العربي” يرافق اسمه حين يُذكَر بين الألمان وغيرهم، حتى بعد انتهاء الحرب وتغيّر الظروف.

لم تكن نتيجة الحرب هزيمة عربية موازية للهزيمة الألمانية وحسب، تجلّت في جعل قيام إسرائيل وتشريد الفلسطينيين أمراً سهلاً أمام عيوننا المفتوحة؛ ولكن أيضاً في زحف تلك القوى الشعبية- الشعبوية واستلامها السلطة في أكثر من مكان… حين تمدّدت الإيديولوجيا القومية- الاشتراكية على خريطة المنطقة، وانتشت في عوالمنا الداخلية حتى الأعماق، ثمّ تفرّعت عنها عشرات المواليد الجدد في كلّ اتّجاه!.