أردوغان وغريزة البقاء في السلطة

يقول الصحفي التركي قدري غورسيل، مؤرخ السياسة الخارجية التركية، في مقابلة مع غيوم بيرييه الذي رصد سيرة حياة أردوغان في كتابه (رجب طيب أردوغان .. طموح وسلطة) “إن أردوغان ليس لديه خط سياسي واضح، بل غريزة بقاء قوية، موهبته الانتهازية والتلاعب بالظروف الطارئة… يواجه كل أزمة بأزمة أخرى”. والواقع أن ما قاله غورسيل يعكس حقيقة وجوهر حياة أردوغان؛ فالمنطق الوحيد للرجل هو المحافظة على سلطته، وفي سبيل ذلك تجده مستعداً لأن ينقلب 180 درجة حتى على أقرب مقربيه، إذ من يقرأ سيرة هذا الرجل سيجد كيف أنه انقلب على معلّمه نجم الدين أربكان مؤسس الإسلام السياسي التركي، حتى أن الأخير وصفه بالخائن والعميل لأمريكا عندما أراد زيارته في المشفى وهو على فراش الموت، ومن ثم كيف انقلب على من مكّنه من توطيد سلطته، أي فتح الله غولين، زعيم “حركة الخدمة”، قبل أن ينقلب على رفاق دربه من مؤسسي حزب العدالة والتنمية، وصولاً إلى انقلاباته الكثيرة في سياساته الخارجية وتحالفاته السياسية مع دول وأحزاب وقوى وحركات، بل إن الأدهى من كل ذلك هو أن لأردوغان عشرات الوجوه، وقدرته على تبديل هذه الوجوه في أي وقت دون أن يرى في ذلك أدنى تناقض. وعليه، فقد جاءت ثقافته خلاسية معقدة،خلاسية سلوك ثقافيّ يقوم على اختلاس النفوس في غفلة، تستمد جذروها من واقع حي قاسم باشا الذي ولد وترعرع أردوغان فيه.      

  من يرصد تحولات أردوغان وانقلاباته الكثيرة، سيجد أن سيرة حياته حافلة بكل ذلك، وهي في المجمل مرت بمراحل عديدة، لعل أهمها :     

مرحلة الإسلام المعتدل: وقد بدأت هذه التجربة نتيجة علاقات أردوغان مع الأمريكان عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول منتصف تسعينيات القرن الماضي، وكان مُنظّرها بحق غراهام فولر الذي كان يشغل منصب رئيس الاستخبارات الأمريكية في دائرة الشرق الأوسط، ومؤلّف كتاب (تركيا الجديدة) وكان مفاد هذا المشروع أو النظرية أن تركيا قادرة من خلال أردوغان وحزب العدالة والتنمية على التأسيس لنموذج إسلامي معتدل، يقوم على الجمع بين الإسلام والديمقراطية والاقتصاد والمجتمع، من خلال سلسلة خطوات وإصلاحات داخلية تنهي سيطرة العسكر على الحياة السياسية التركية، وبالتالي محاكاة القيم الأوروبية، وعليه زار دياربكر – آمد في عام  2005، وقال من هناك جملته الشهيرة: إن القضية الكردية هي قضيتي، والطريق إلى العضوية الأوروبية يمر من دياربكر. كان ذلك قبل أن ينقلب على نفسه وينكر وجود قضية كردية، ويضع كل المسألة في إطار الإرهاب، لتتوالى فصول الدم، ومن ثم ينقلب على مشروع الإسلام المعتدل نفسه .                                                         

مرحلة الإسلام السياسي: وقد بدأ هذا المشروع مع لحظة اندلاع ما سمي بثورات الربيع العربي عام 2011، وقد اعتقد أردوغان أن هذه اللحظة جاءت له من السماء لتحقيق مشروعه السياسي، عبر أدواته المتمثّلة بجماعات الإسلام السياسي ( الإخوان المسلمين ). وعليه، انقلب على حلفائه من رؤساء الدول العربية أمثال القذافي ومبارك وبن علي والأسد.. ودعم جماعات الإسلام السياسي لإيصالها إلى السلطة، ووصل يد دعمه إلى التنظيمات الإرهابية مثل داعش والنصرة وحسم، بوصفها أدواته الجديدة للتخلص من الأنظمة الحاكمة في الدول العربية وإعادة بناء أمجاد الإمبراطورية العثمانية المنهارة قبل قرن، فكان التدخل العسكري في سوريا والعراق وليبيا… قبل أن يجد أن هذا المشروع أكبر من طاقات تركيا وقدرتها في ظل وجود قوى دولية كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي، ومع تلّقي مشروعه هذا ضربات في مصر وتونس وسوريا وسواها من بلدان، سارع أردوغان للتراجع عن مشروعه العثماني لصالح مشروعه الأصغر، أي الميثاق الملي، الذي تقوم فكرته على اعتبار أجزاء من الأراضي السورية والعراقية واليونانية أراضٍ تركية خسرتها تركيا بموجب اتفاقية لوزان عام 1923.                           

مرحلة البقاء في السلطة: مع انهيار المشاريع السابقة، لم يجد أردوغان أمامه سوى مشروع البقاء في السلطة، والمفارقة أن هذا المشروع تطلب منه الانقلاب على كل سياساته السابقة، وهكذا انعطف نحو دول الخليج العربي لإنقاذ سلطته من الإنهيار الاقتصادي، واتجه إلى مصر مقدماً لها رأس الإخوان المسلمين، وتصالح مع إسرائيل على حساب علاقته بحركة حماس. واتجه إلى دمشق للاتفاق معها ضد قسد، وعارضاً عليها تخليه عن ما كان يسميها “ثورة الحرية”، ونزع ورقة اللاجئين السوريين في الداخل التركي من يد المعارضة التركية التي تتوق لإلحاق هزيمة ساحقة به في الانتخابات المقبلة بعد أن حققت فوزاً كبيراً في الانتخابات المحلّية عام 2019.           

عبر  كل إنقلاباته السابقة، كان أردوغان يرقصي رقصة البهلوان بين موسكو وواشنطن، وينفخ في البارد والحار معاً. ينفجر غضباً بسرعة لكنه يهدأ بالسرعة نفسها، في لحظة يصف أمريكا بالإمبريالية، ويطالبها بالإنسحاب من شمال شرقي سوريا، وفي اللحظة التي تليها يخطب ودّها، ويبدي الاستعداد للعمل تحت رعايتها، والأمر نفسه ينطبق على علاقته بروسيا بوتين، فيما تمثّلت ثوابته في أنه حافظ على محاربة الكرد أينما كانوا، والحفاظ على سلطته مندفعاً إليها بغزيرة البقاء، والخوف من أن يلقى في قصره الأبيض مصير الدكتاتور الروماني نيقولا تشاوشيسكو. ويأتي كل ذلك على أبواب انتخابات مصيرية له ولحكمه ولحزبه.