من مفارقات انتفاضة الشعب السوري أنها كشفت عدم أصالة مواقف كثير من السياسيين والمفكرين المعارضين، إذ تخلوا بصورة لافتة عن أدوارهم في إنتاج السياسة أو الفكر، والتحول إلى مجرد مرددين لشعارات الشارع. في وضعيتهم هذه خانوا قضيتهم مرتين: في المرة الأولى عندما تخلوا عن دورهم ووظيفتهم الرئيسة في إنتاج السياسة أو الفكر، وفي الحالة الثانية عندما لم يضيفوا شيئاً نوعياً إلى حقل الشعارات.
من المعلوم أن الشارع يمثل حقلاً تعبوياً، لذلك فهو بحاجة ماسة لرفع الشعارات التي تزيد من حشد الناس فيه، وتزيد من حماسهم. الشارع المنتفض يمثل قبضة التاريخ المرفوعة في وجه النظام تُخلخل دعائمه وأركانه. هذه هي طبيعته لأنه بالأساس حقل تعبوي، فهو ليس معنياً بإنتاج السياسة، ولا الفكر الذي يؤسسها، فهذه مهام تخرج عن نطاقه، إنها من مهام السياسيين والمفكرين.
من حيث المبدأ ينبغي على المفكر، المحافظة على مسافة من حركة الشارع تتيح له تبصيرها وإضاءة طريقها، وينبغي على السياسي أن يشغل موقع الرأس منها يحول شعاراتها إلى رؤى سياسية وبرامج ويوجّه حركتها. في سوريا، وللأسف، خان كثير من السياسيين والمفكرين هذا الدور وصاروا مجرد مرددين لشعارات الحراك في الشارع. “الشارع يقود”، ولا صوت يعلو على “صوت الشارع”، ما “ترفعه الانتفاضة من شعارات هو وحده الصحيح”، إلى آخر هذه التعبيرات اللفظية التي رددها كثير من مفكري المعارضة وسياسيها، وهي تدل على استقالة العقل السياسي والفكري المعارض. يحضرني في هذا المجال شعار “إسقاط النظام” الذي رفعه الحراك في الشارع وردده من ورائه أغلب القوى السياسية والفكرية المعارضة، دون أن تكلف هذه الأخيرة نفسها عناء الإجابة عن السؤال الذي يقبض عليه، وهو كيف يمكن إسقاط النظام فعلياً؟.
لقد حاول مفكرو هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي الإجابة عن السؤال (كيف يمكن تغيير النظام وليس إسقاطه) من خلال الحراك الشعبي السلمي، وتقدمت قيادة الهيئة برؤية برنامجية، بهذا الخصوص، إلى مؤتمرها في حلبون، غير أن المؤتمر طالب بمراجعتها في ضوء ما سمي بحق “الدفاع عن النفس”، بما يعني عملياً تأييداً ضمنياً للحل العسكري.
أما بالنسبة لقوى “إعلان دمشق” والتيارات الدينية وغيرها من القوى التي صار يضمها المجلس الوطني السوري، ولاحقا الائتلاف، وهي الأكثر صخباً في حديثها عن إسقاط النظام، فإنها راهنت منذ البداية على التدخل العسكري الخارجي لإسقاط النظام، لكنها لم تبحث في ممكنات هذا الخيار واقعياً، الأمر الذي تبيّن لاحقاً أنه مجرّد وهم مبني على رغبات. يكاد يكون هذا هو حال أغلب المعارضين المشتغلين في حقل الفكر والسياسة بصورة عامة. ودون الدخول في جدل غير مجد حول هذه المواقف المختلفة يمكننا تسجيل الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى؛ لقد تغيرت كثيراً مواقف الكثير من السياسيين والمفكرين المعارضين للنظام من المطالبة بإصلاحه لتحقيق الانتقال “المتدرج السلمي والآمن” إلى الديمقراطية، إلى “إسقاطه”، وهي تتغير اليوم باتجاه التعاون معه، في تجاهل لافت لقوة النظام، والقوى الداعمة له، في معادلة موازين القوى.
الملاحظة الثانية؛ تجاهل أغلب النخب السياسية والفكرية المعارضة حقيقة أن الشعب السوري حُرم من الحياة السياسية الطبيعية لعقود من السنين، وأن غالبية الأجيال السورية هي أجيال البعث التي شكلها على طريقته، وأن إعادة تكوينها بما يستجيب لمتطلبات ممارسة الحرية والديمقراطية ليست عملية سهلة.
الملاحظة الثالثة؛ نظرت أغلب النخب السياسية والفكرية إلى “إسقاط النظام”، على أنه حدث وليس عملية لها زمنها الذي ينبغي أن تستغرقه، ولها أكثر من بداية محتملة، ولكل منها ممكناتها وكلفتها، وهذا ما تم تجاهله أو تم التعامل معه ببساطة لافته. بعض القوى المعارضة وجدت في تنحي الرئيس، أو إزالته، بداية لإسقاط النظام، لكن بعضهم الآخر أضاف إليه عائلته، وأغلب قادة جيشه. ثمة فئة ثالثة من المعارضين، وهم قلة من الناشطين في الداخل السوري، كانت ترى في إعداد دستور ديمقراطي جديد، مع كل ملحقاته من القوانين التنفيذية، أنه المدخل المناسب لهزيمة السلطة الحاكمة عبر صناديق الاقتراع في انتخابات نزيهة ومراقبة دولياً.
الملاحظة الرابعة؛ تبنت أغلب النخب السياسية والفكرية الخيار العسكري خياراً وحيداً لإسقاط النظام، مما تسبب في إسقاط الدولة بما تعنيه من وحدة السلطة والجغرافيا والشعب.
واليوم عندما تراجع الخيار العسكري، وصار الحل السياسي هو الذي يتقدّم، لا يزال كثير من سياسيي ومفكري المعارضة يكررون الأخطاء ذاتها. بداية لا يزال كثيرون منهم يتمسكون بالمطالب ذاتها وخصوصاً لجهة إسقاط النظام لكن عبر المفاوضات هذه المرة؛ ويعبّر كثيرون عن هذا المطلب بضرورة الانتقال السياسي وتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات في تجاهل واضح لموازين القوى المحلية، والتغيرات الإقليمية والدولية تجاه الأزمة السورية وأطرافها. كان الأجدر بمفكري المعارضة تحليل طبيعة الأزمة السورية لاكتشاف الممكنات السياسية للخروج منها، لكي يتمسك بها السياسيون.
اليوم تعد القضايا الرئيسة للخروج من الأزمة السورية ذات طابع وطني، من قبيل تحرير البلد، وإعادة توحيده وإعماره، وتأمين عودة المهجرين والنازحين إلى أماكن سكناهم. وعليه فإن المدخل الرئيس لتحقيق ذلك هو في بناء نظام سياسي ديمقراطي علماني لامركزي من خلال تحدي النظام في انتخابات نزيهة مراقبة دولياً.