تبدو المنطقة الجنوبية من سوريا، للناظرين إليها من خارج دائرتها ولغير المطلعين على أوضاعها عن كثب، وكأنها أمست تحت سيطرة نظام الأسد كليّاً. هذا شيء طبيعي، على اعتبار أنّ تسوية عام 2018 انتهت إلى فرض سيطرة النظام على تلك المنطقة؛ فقد تمّ إنهاء وجود فصائل الثورة المسلّحة، والتي كانت تعمل برعايةٍ وحمايةٍ غربيتين تحت مسمّى “الجبهة الجنوبيّة”، وبطبيعة الحال كانت التسوية قد تحققت نتيجة اتفاق روسي – أميركي أثناء لقاء الرئيسين ترامب وبوتين في العام السابق له، والذي تُرجم بلقاء رؤساء مكاتب الأمن القومي في تل أبيب باستضافة نظيريهما الإسرائيلي.
غير أنّ استقراء الأحداث التي مرّت خلال السنوات المنصرمة منذ تلك التسوية وحتى اللحظة، يجعلنا نعيد تلك الحسابات والتوصيفات كلّها.
في إحصائية أجراها تجمّع “أحرار حوران” حول الانتهاكات المرتكبة في الجنوب خلال عام 2022، وتحت عنوان “حصاد الإرهاب”، ورد فيه أنّ عدد قتلى النظام من العسكريين قد بلغ 82 قتيلاً، هذا وتُظهر الأرقام الواردة في التقارير المماثلة عن السنوات السابقة، أنّ خسائر قوات النظام الأمنية والعسكرية خلال الفترة من 2018 وحتى نهاية عام 2022 تعادل، أو تكادُ تفوق، خسائره منذ بداية عام 2012، أي الفترة التي تصاعدت فيها عمليات “الجيش السوري الحر” العسكرية حتى صيف العام 2018، حيث عادت المنطقة لسيطرة النظام؛ فعمليات الاغتيال والعمليات الأمنية المحدودة مثل تفجير مركبة أو مدرّعة، باتت أكثر سهولة، ذلك أنّ المنطقة أصبحت مفتوحة لحركة المدنيين، ولم يعد هناك حواجز ولا خطوط تماس كما السابق.
لم يستطع النظام استعادة المناطق التي خرجت عن سيطرته بالقوّة، لكنّه تمكن أخيراً من ذلك بسبب التفاهم الروسي الأميركي المذكور. وكان من أثر هذا التفاهم أنّه لم تكن هناك معارك كبيرة على جميع الجبهات وخطوط التماس، فقط في بعض المناطق التي لم يقبل أهلها باتفاقيات التسوية التي عقدها قادة الفصائل. وقد كانت أبرز هذه المناطق درعا البلد، التي حاول النظام اقتحامها بالقوّة نظراً لرمزيّتها الكبيرة، لكنّه فشل فشلاً ذريعاً. كذلك كانت هناك عمليات مقاومة شرسة في مدن بصر الحرير والحراك وناحته وطفس وجاسم وبعض القرى الأخرى. ورغم ذلك، وبسبب طبيعة التفاهمات الدولية، فقد حصلت القوى المحلية من عسكرية ومدنية في محافظة درعا على أفضل وضع من خلال التسويات، فلم تتمركز قوات النظام في العديد من المدن، خاصّة تلك التي قاومت ولم تستطع اقتحامها، يضاف إليها مدينة بصرى الشام وبعض القرى المحيطة بها، والتي كانت تحت سيطرة قوات القائد المحلي أحمد العودة.
اعتمد النظام مبدأ تقسيم محافظة درعا إلى أربعة قطاعات رئيسية لتوزيع سيطرة أجهزته الأمنية، فكانت المنطقة من حدود المحافظة الشمالية مع ريف دمشق وحتى الحدود الجنوبية لمدينة الصنمين، والتي ضمّت الجزء الشمالي من منطقة اللجاة الوعرة وجزءً هاماً من الطريق الدولي الواصل إلى العاصمة دمشق، من اختصاص جهاز الأمن السياسي. تليها المنطقة الوسطى الشمالية التي تشمل بقيّة الحدود الإدارية لمدينة الصنمين، وهي تضمّ مدناً مهمة كان لها دور كبير في الأحداث مثل جاسم، كما شملت القسم الجنوبي من منطقة اللجاة، وكانت السيطرة في هذا القطاع لجهاز أمن الدولة. تأتي جنوبها المنطقة الوسطى من المحافظة والتي تشمل مدناً عديدة مهمّة جداً مثل نوى، وهذا القطّاع كان من اختصاص المخابرات الجوّية. ثم تأتي المنطقة الرابعة وهي الجنوبية الغربية من المحافظة وتشمل مدينة درعا مركز المحافظة ذات الرمزية الكبيرة بسبب انطلاقة الثورة منها، إضافة لعدد كبير من المدن والقرى المهمّة مثل نصيب، وكانت من اختصاص المخابرات العسكرية.
بقيت المنطقة الجنوبية الشرقية من المحافظة، والتي تشمل مدينة بصرى الشام والقرى المحيطة بها، تحت السيطرة الكلية لمسلّحي “شباب السنّة” بقيادة أحمد العودة، والتي تحولت لما يعرف باسم اللواء الثامن التابع للفيلق الخامس. كما كان لهذا اللواء مراكز منتشرة خارج منطقة نفوده الأساسية على شكل مجموعات محلية تتوزع في جميع مناطق سيطرة النظام السابقة. تنتشر هذه النقاط على مختلف المدن والقرى والبلدات من الشمال إلى الجنوب، وضمّت إليها مؤخراً جاسم بعد تصفية زعيم تنظيم داعش الإرهابي فيها، ودرعا البلد بعد العمليات العسكرية التي انتزع من خلالها اللواء أحياء المدينة من يد خلايا التنظيم.
انتشرت قوات حزب الله اللبناني في بعض المناطق بشكل علني مثل مدينة إزرع، التي لم تخرج عن سيطرة النظام مطلقاً، وبالقرب من منطقة بصر الحرير بمحاذاة الحدود الإدارية لمحافظة السويداء. كان للحزب أيضاً مناطق حركة ونشاط غير معلنةٍ في درعا المحطّة وفي بعض المدن والقرى الأخرى مثل بلدة قرفا، وقد عمل فيها من خلال مجموعات محلّيةٍ ذات ولاء عقدي أو لمجرّد أنّ أعضاءها مرتزقة مأجورون. كذلك انتشرت قوات عديدة للفرقة الرابعة الموالية كليّاً لإيران في عدد من المناطق، فكان لها سيطرة شبه كاملة على مركز نصيب الحدودي، ومعسكراتٍ ومفارز في ضاحية درعا الغربية وعدد من المناطق الأخرى، كما كان لها معسكر تدريب في زيزون. أمّا الشريط الحدودي فكان من اختصاص قوّاتٍ تابعة للفرقة الخامسة عشر ولواء الهجّانة أو حرس الحدود، وهناك معلومات عن استعدادات تجريها الفرقة الرابعة للمشاركة هناك أيضاً.
استمرّت حالات الشدّ والجذب بين النظام والقوى المحلية في تصاعد وانخفاض حسب متغيرات كثيرة لا يمكن حصرها، لكنّ نهج النظام كان واضحاً لجهة إصراره على إعادة السيطرة الأمنية المطلقة كما كانت قبل عام 2011، وقد استخدم لذلك كل الأساليب الممكنة باعتماد الاغتيالات والاعتقالات والخطف، ومحاصرة المدن والقرى خاصّة أثناء المواسم الزراعية، إضافة إلى تسهيل نقل الأفراد والمجموعات الإرهابية والمتطرّفة من مناطق شمال غربي وشمال شرقي سوريا، وإضافة لتسهيل عمليات ترويج المخدرات، لكن دون أن يحقق كل ذلك نتائج حاسمة على الأرض.