لم يعد الكُردي بحاجة للخوض مجدداً في تفاصيل مكرّرة تثبِّت البعد التاريخي والإنساني لقضيته الضاربة في جذور التاريخ، ولكن لا ننكر أنه ثمة في السياق ذاته فصيل اجتماعي وذئاب منفردة تأبى الاعتراف بهذه الحقيقة، لذلك نجد أنفسنا أحياناً مجبرين- ككُرد- على الشرح لهؤلاء بطريقة مختلفة تستوعبها عقولهم، وتستقبلها أفئدتهم!
فالقضية الكردية هي في المطاف الأول قضية شعب وحق إنساني، وقضية إقليمية وجيوسياسية واستراتيجية كبيرة، إذ أنها لا تتعلق بجغرافية القامشلي وسوريا فقط، بل بالعراق أيضاً، وبتنظيمات تتمركز في دول أوروبية وغيرها. لذا أي تحرك في هذه القضية غالباً ما يكون له ارتدادات إقليمية في سوريا والعراق وإيران وتركيا، بالإضافة إلى ارتدادات دولية تمتد لتشمل روسيا والولايات المتحدة الأميركية.
وبناء على ما تقدم، ولفهم النزاع التركي الكردي التاريخي، ومخاوف تركيا الدائمة من الكُرد، خصوصاً الذين يقيمون في منطقة الجنوب الشرقي، واتساع هواجس أنقرة من الكُرد الذين يحاولون الحصول على منطقة حكم ذاتي في شمال شرقي سوريا، كان لا بد من إيجاد مبرر وذريعة جديدة لتوسيع منطقة نفوذها داخل سوريا، والبدء بهجوم واسع على قوات “قسد” بالتزامن مع ضربات لإقليم كردستان العراق، حيث كشف جهاز مكافحة الإرهاب في كردستان العراق، أن تركيا نفذت أكثر من 35 عملية قصف جوي استهدفت خلال فترة وجيزة مقرات ومواقع وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني.
مزاعم حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم، التي توهم بها الداخل التركي للقيام بعمليات عسكرية عدوانية في الخارج بغية إلقاء فشل سياساتها الداخلية على تلك الجهات، وسيناريو التفجير “الكوميدي” في مدينة إسطنبول يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن جعبة أردوغان باتت خاوية، والثمرة الوحيدة التي استفادت منها أنقرة بهذه المحاولات هي أنها الآن على تماس مع الكرد داخل سوريا، وجميع الاحتمالات حاضرة بما فيها تلك الاحتمالات التي ستعيد العمليات العسكرية المباشرة إلى داخل الأراضي التركية!
هذه الحالة توضح عدة معطيات خلال المرحلة القادمة:
- أن الترويج لوجود تفاهم تركي روسي لتسليم “قسد” المناطق الحدودية الخاضعة لها للنظام السوري فكرة باتت في طيّ النسيان.
- 2- الكُرد باتوا يفهمون جيداً الموقف الأميركي الذي أثبتت التجارب السابقة أنه لا يعول عليه، رغم تحركاته العسكرية على الأرض لصالح حليفه القوي “وحدات حماية الشعب ” حيث صمتت واشنطن تقريباً على الهجوم التركي الأخير في بداياته، قبل أن تصعّد لهجتها تجاهه بمجرد الحديث عن عملية برية، ثم ما لبثت أن رفضت العملية برمتها.
- كما يتضح من المواقف الأخيرة أن تركيا مهتمة أيضاً بأن لا تدفع الكُرد كثيراً إلى النظام السوري، خاصة وأن روسيا والنظام تحاولان الاستفادة من الأمر، وهو ما دفع أنقرة إلى محاولة فتح خطوط تواصل مع النظام السوري بهدف قطع أي تواصل أو تفاهم سياسي بين وحدات حماية الشعب والنظام السوري.
- وحتى لا نغرس رؤوسنا في التراب مثل النعام، لا بد من الاعتراف بأن هناك ما يشبه الانفتاح السياسي والاجتماعي داخل “قسد” والحاضنة الشعبية في المنطقة اتجاه تركيا، والتشدد الحاصل إنما هو في الحقيقة ضد دخول تركيا المنطقة بفصائل ما يسمى “الجيش الوطني السوري” الموالية لأنقرة، وفصائل المرتزقة التابعة لها!
- والأهم من كل ذلك هو أن “قسد” باتت تدرك تماماً أن موقف كل دولة من الدول اتجاه عملية ما تسمى “المخلب – السيف” إنما ينبع من مصالحها ومواقفها السياسية، وبالتالي اتخذت قرارها بالمواجهة مع تركيا حتى وإن بقت وحيدة حال شنت تركيا عملية عسكرية برية جديدة في شمال سوريا.
يبدو أنه لا حل قريباً لهذا الصراع، إذ إن تركيا تحاول الحفاظ على مصالحها القومية المرتبطة بمعاداة الشعوب القومية والمجموعات المختلفة، كالأرمن والعرب والكرد الذين ترفض أنقرة منحهم حقوقهم على أراضيها، وترفض أي محاولات لحصولهم على حقوقهم المشروعة في الدول المجاورة، كما تبدو الصورة جلية أن روسيا وتركيا والولايات المتحدة الأميركية لا تريد صداماً فيما بينها، ويُحسب لقوات سوريا الديمقراطية الحفاظ على مستوى جيد من العمل الدبلوماسي مع القوتين روسيا وأمريكا رغم التضارب بين مصالحهما أغلب الأوقات.
وهذا يعني أنّ قسد مثلما هي منفتحة على الحوار والتفاوض مع النظام السوري – رغم تعنّته حتى الآن – فهي ستكون أكثر انفتاحاً في حالة الحوار مع تركيا نفسها إن كانت هناك ظروف ملائمة تفضي إلى سلام بين لطرفين.
ومن الممكن التوصل إلى الحلول الوسط، التي تتم فيها مراعاة هواجس تركيا الأمنية، والتي تبدو في هذه المرحلة أن واشنطن ستستمر بغض النظر عن استمرار العملية العسكرية الجوية التركية، على ألا تنفذ أي عملية برية واسعة يمكن أن تؤدي إلى تقويض الحرب الأميركية على “تنظيم الدولة”.
وهنا مكمن القوة لقسد على الأرض، والمتمثلة أولاً بحاضنتها الشعبية من كُرد وعرب وسريان وآشوريين إلخ….، والذين يجدون فيها جسراً للانتقال بهم إلى سوريا جديدة تحتضنهم جميعاً بكل خصوصياتهم، وثانياّ بانتهاج قسد خطاً متوازن في تعاملها مع القوتين الرئيسيتين “أمريكا و روسيا” بالإضافة إلى إعلانها في أكثر من مناسبة بأنها لا تسعى للحرب مع تركيا بل على العكس تماماً تريد الحفاظ على علاقات حسن الجوار معها.