تركيا عام 2023.. عام الحسم

لم يترك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مناسبة طوال العقد الماضي وإلا تحدث فيها عن عام 2023، بوصفه يمثل تاريخاً فاصلاً للانتقال إلى مرحلة جديدة في تاريخ الجمهورية التركية، إلى درجة أن البعض قال إنه تاريخ الانتقال إلى الجمهورية الثانية، من خلال التخلص من إرث الأتاتوركية وتأسيس دولة عثمانية جديدة.                             

بعد أيام قليلة، تدخل تركيا العام 2023، مثقلة بتحديات كثيرة، وهي متجهة إلى خوض انتخابات برلمانية ورئاسية مصيرية للرئيس أردوغان وحزبه الحاكم (حزب العدالة والتنمية) ومع هذا الاستحقاق المصيري، يبدو الانقسام هو سيد المشهد في الداخل التركي، بين نظام فرض سيطرته على كافة مؤسسات الدولة والمجتمع، وأخذ مظهر الدولة الشمولية في ظل نظام رئاسي مطلق الصلاحيات، وبين معارضة يتصاعد نفوذها، وتتوسع في كل الاتجاهات، وتتطلع إلى إلحاق الهزيمة بحكم أردوغان، ولعل ما يساعدها على ذلك، هو حجم الأزمة المعيشية، بسبب انهيار قيمة الليرة التركية أمام الدولار، وارتفاع الأسعار، وتفاقم المعاناة المعيشية جراء فقدان المواطنين الأتراك القدرة الشرائية، وإفلاس الشركات، وتوقف المشاريع الكبرى، وهروب الاستثمارات إلى الخارج، وفضائح الفساد، وتضاعف أرقام البطالة والتضخم والمديونية وفوائد الدين الخارجي، وتراجع التصنيف الأئتماني من قبل الوكالات الدولية… ولعل كل ما سبق، دفع بالعديد من مراكز الدراسات في الغرب إلى إصدار تقارير تتنبئ بحدوث انهيارات مالية في تركيا، تكون بمثابة النهاية لتجربة حكم حزب العدالة والتنمية، وهروباً من هذه النتيجة يسارع أردوغان إلى دول الخليج العربي لاسيما قطر والسعودية للحصول على المزيد من الأموال على شكل ديون لإدارة الأزمة المالية، تجنبا لتداعياتها على مصيره الانتخابي وبالتالي السياسي.         

يضاف إلى العامل الاقتصادي، فقدان الأردوغانية لبريقها الأيديولوجي، خاصة بعد أن أكلت أبنائها المؤسسين، إذ لم يبقَ أي من هؤلاء في صفوف الحزب بإستثناء أردوغان، فالمنظر الأيديولوجي لسياسة الحزب، أحمد داوود أوغلو أصبح خارجه، وأسس حزب المستقبل الذي بات يسعى عبر طاولة الأحزاب الستة  المعارضة إلى إلحاق الهزيمة بأردوغان وحزبه، والأمر نفسه ينطبق على العقل الاقتصادي السابق للحزب، علي باباجان، قبل أن ينشق عن الحزب، ويؤسس حزب الديمقراطية والتقدم (ديفا)، فضلاً عن تقارير تشير إلى ترك أكثر من مليون عضو حزب العدالة والتنمية خلال السنتين الماضيتين، كل ذلك في ظل التفرد المطلق لأردوغان بقيادة الحزب، إلى درجة أن هذه القيادة باتت محصورة بالمقربين منه، وسط حديث عن صفقات مالية ضخمة مع رجال أعمال يعملون تحت راية الحزب والعائلة، وما يفاقم المشهد أكثر فأكثر تحول تركيا إلى دولة بوليسية تقوم على إقصاء كل من يناهض سياسة أردوغان، حتى تحولت تركيا إلى رمز لحملات القمع والاستبداد في كل الاتجاهات، من إنتهاج أقصى الممارسات العنفية ضد الكرد، حيث حملات القتل والاعتقال ورفع الحصانة عن النواب، وعزل رؤساء البلديات المنتخبين، إلى مواصلة ضرب أنصار الداعية فتح الله غولن، وصولا إلى حملات اعتقال الصحفيين وسجنهم، ومحاصرة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما دفع بالعديد من المنظمات المعنية بالحريات إلى وصف تركيا بأنها أصبحت أكبر سجن للصحفيين في العالم، في وقت بات ملف المعتقلين السياسيين يثير أزمة في العلاقات التركية – الأوروبية، لاسيما بعد رفض أنقرة مراراً الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية العليا لحقوق الإنسان، تلك الأحكام التي طالبت بالإفراج الفوري عن السياسي الكردي البارز صلاح الدين ديميرداش، والناشط ورجل الأعمال عثمان كافالا، إذ رفض أردوغان تنفيذ هذه الأحكام، بل وهاجم المحكمة الأوروبية التي تركيا عضواً فيها.         

في الخارج، لا يقل الوضع سوءاً، إذ أن تورط أردوغان في حروب كثيرة، من ليبيا غرباً إلى القوقاز شرقاً، مروراً بالعراق وسوريا حيث التهديد الدائم بعمليات عسكرية جديدة في شمال شرقي سوريا، وقد جلبت سياسته العدوانية هذه المزيد من المشكلات والتوتر لتركيا مع الخارج، فعلاقات بلاده مع الولايات المتحدة هي في أسوأ حالاتها رغم محاولة أردوغان ابتزاز الإدارة الأميركية في الحرب الروسية – الأوكرانية، كما أن علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي تشهد حالة من التوتر بسبب تصعيده في شرقي المتوسط، والتهديد بضرب اليونان حيث هدد قبل أيام بقصف أثينا، كما أن العلاقة مع موسكو هي في حالة كباش رغم حرص الطرفين على تدوير الزوايا، ومحاولة التوافق في أكثر من ملف، إلا أن من الواضح أن مثل هذا التوافق نابع من استغلال متبادل للأوراق، وسط غياب الثقة، وخشية متبادلة من أي تطور يؤدي إلى إنقلاب على التفاهمات بينهما هنا أو هناك.       

أردوغان وفي معركة البحث عن أوراق إقليمية لتعزيز موقفه في الداخل التركي، يسارع من انعطافاته نحو الدول العربية وإسرائيل، متنازلاً عن الأوراق التي استخدمها ضد هذه الدول في العقد الماضي، فثمن الانفتاح على مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل كان التنازل عن ورقة جماعات الإخوان المسلمين، ووضع رأس هذه الجماعات في البازار السياسي، وهو في مسعاه هذا يحاول تكرار نفس السيناريو في الأزمة السورية، من خلال إبداء استعداده لفتح صفحة جديدة مع النظام السوري بعد أن كان ينادي ويدعم كل من يعمل لإسقاطه، وهو في كل ما سبق، يأمل بانعكاس هذه السياسة لصالحه في معركة الانتخابات الرئاسية المقبلة بعد أن باتت سياساته التدخلية في شؤون الدول تنعكس عليه في الداخل، في وقت باتت سياسته هذه مكشوفة للجميع، وفي هذا الإطار ينبغي النظر إلى تعثر المصالحة مع مصر رغم المصافحة التي جرت بينه وبين الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي في قطر، وكذلك الحديث عن رفض الرئيس السوري، بشار الأسد عقد قمة معه إلى حين معرفة نتائج الانتخابات التركية المقبلة، ويبدو أن أردوغان أمام كل ما سبق لا يجد أمامه سوى التصعيد ضد شمال شرقي سوريا على شكل مغامرة، لاسيما أنه يربط سياسته هذه بالحديث عن مواجهة مؤامرات من قبل دول كبرى تسعى إلى تقسيم بلاده حسب زعمه، وهو ما يزيد من وتيرة الصدام مع الخارج، وتحديداً الولايات المتحدة إلى درجة أن أردوغان بات يصفها بالامبريالية !!.                

أردوغان الذي يدرك جيداً أن رؤية عام 2023 لم تتحقق، لذا يحاول توجيه أنظار الأتراك إلى وعود لعشرات أعوام قادمة، من خلال الحديث عن القرن التركي وعامي 2053 (ذكرى مرور 600 عام على غزو القسطنطينية – إسطنبول) و2071 (ذكرى مرور قرن على معركة ملاذ كرد 1071) بدلاً من الحديث عن عام 2023، وهو في طرحه لهذه المواعيد الجديدة والبعيدة، يحاول القبض على المشهد التركي الراهن بالحديد والنار، من خلال ربط كل شيء بالاستحقاق الانتخابي المقبل، وجعل فوزه قضية حياة أو موت، وهو ما يجعل من هذه الانتخابات حدثاً مفصلياً حاسماً في تاريخ تركيا، حدثاً يحمل معه ملامح انفجارات كبرى في الداخل التركي على وقع الانقسام والاصفطاف الجاريين في كل الاتجاهات.