أردوغان والأسد.. دعوة للقاء بعد فراق

على مدار أحد عشر عاماً كان لتصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صدىً ووقعاً في نفوس السوريين وهي تعبر عن دعم منقطع النظير للشعب السوري الذي تعرض لظلم وقتل وتهجير ونزوح على يد طاغية الشام بشار الأسد ونظامه, فمن قوله لا حماة بعد حماة, وأنتم المهاجرون ونحن الأنصار, وخمسون ألف مهجر خط أحمر, ثم مائة ألف, ثم كرت السبحة ووصل عدد اللاجئين السوريين في تركيا لقرابة الخمسة ملايين, فُتحت الحدود والمدن والبلدات التركية للسوريين, واحتضنت تركيا الملايين, منهم من غادر ومنهم من بقي على أراضيها, وكانت تركيا خير مجير للمظلومين السوريين الذين خرجوا بثورة على ديكتاتورية الأسد, واحتضنت إسطنبول وغازي عنتاب أيضاً مؤتمرات المعارضة السورية وفتحت لهم المكاتب, ثم دعمت تشكيلات الثورة العسكرية, وفجأة وعلى مبدأ أنه في السياسة لا صديق دائم ولا عدو دائم، أطلق الرئيس التركي أردوغان تصريحات متتالية, لحق به وزير الخارجية التركي تشاوش أوغلو تدعو للقاء الأسد, ومن ثم تقدم أردوغان خطوة أخرى للأمام عبر طرحه لمبادرة عقد قمة ثلاثية تجمعه مع بوتين وبحضور الأسد, بصدمة أخرى فاجأت السوريين وعلى الضفتين, لكن مبادرة أردوغان طمأنت الرئيس بوتين الذي اعتبر الدعوة خطوة تركية إيجابية, أتت بعد ضغوط مارستها الخارجية الروسية عبر خطة عمل عليها الوزير لافروف وقبلت بها تركيا بعد إدخال بعض التعديلات.

الدعوة التركية للمصالحة مع الأسد ولعقد قمة ثلاثية في موسكو، أتت على أعقاب إعادة تموضع سياسي لأنقرة بين الشرق والغرب، بعد الابتعاد التركي عن واشنطن والاقتراب من خصومها في موسكو وطهران، وعبر استراتيجية جديدة للدبلوماسية التركية ظهرت في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي تحاول العودة لمبدأ “صفر مشاكل مع الجوار”, والتي أثمرت عن مصالحة تركية سعودية، وتركية إماراتية، ونصف طريق لمصالحة تركية مصرية.

مصادر قالت إن قمة طهران الثلاثية التي انعقدت بتاريخ 19 تموز/يوليو 2022 بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران, حضر بعض اجتماعاتها وزير خارجية الأسد فيصل المقداد بعد تخلف بشار الأسد عن الحضور لسبب ما, وكانت قمة هامة ومثمرة لمن حضر, صحيح أن تركيا لم تحصل على الضوء الأخضر لعمليتها العسكرية في شمالي سوريا نتيجة الرفض القاطع لروسيا وإيران, لكنها حصلت على ما هو أكبر وأبعد من العملية, والمصادر أكدت الوصول لـ”شبه اتفاق” روسي_ تركي, بحيث تنسحب معظم القوات الروسية من سوريا لصالح أنقرة وإيران نتيجة انشغال الجيش الروسي بالحرب في أوكرانيا (مع الإبقاء رمزياً على الوجود الروسي بالقواعد البحرية والجوية في الساحل السوري), على أن تضمن تركيا المصالح الروسية في سوريا, واتفاق آخر على خلق تحالف عسكري لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية في شرقي الفرات, على أن يعود جيش الأسد لضبط الحدود مع تركيا, مع زيادة عمق اتفاقية “ّأضنة” المعقودة بين الجانبين التركي والسوري عام 1998 وملحقاتها عام 2010, والاتفاقية التي سمحت لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لعمق 5كم عند الضرورات الأمنية دون العودة لإذن من دمشق, يمكن أن تُصبح 10 أو 15 وقد تكون 20كم داخل الأراضي السورية.

نظام الأسد المحاصر سياسياً ودبلوماسياً بعد أن قطعت معظم دول العالم علاقتها معه وسحبت سفرائها من دمشق نتيجة جرائمه بحق السوريين, ولم تعد إلا موسكو وطهران من تستقبله, كان متوقعاً أن تشكل الدعوة التركية “طاقة قدر” فُتحت للأسد ليعبرها نحو فضاء أوسع, خاصة أن الدعوة أتت من زعيم إقليمي (أردوغان) لطالما هدد الأسد بمحاسبته على جرائمه, بل ذهب لأبعد من ذلك عندما توعد الأسد بالسقوط والصلاة بعدها في جامع الأمويين بدمشق وزيارة قبر صلاح الدين, لكن مصادر خاصة من دمشق أكدت أن ما نقله فيصل المقداد للأسد من قمة طهران قوبل بالرفض القطعي, وأن نظام دمشق يعتبر الخطوات التركية لها بعد داخلي تخدم حزب العدالة والتنمية, وأن ضغوط المعارضة التركية هي من تقف خلف تصريحات المسؤولين الأتراك بهدف سحب بعض أوراق الضغط السياسي, كما كان تصريح عودة مليون ونصف لاجئ سوري طوعاً لسوريا غايته سحب ورقة اللاجئين السوريين من يد خصومهم بالمعارضة التركية, وأن دمشق لن تقدم طوق النجاة لحزب العدالة والتنمية وللرئيس أردوغان بالتحديد في الانتخابات القادمة, واعتبرت بثينة شعبان المستشارة السياسية لبشار الأسد أن التصريحات التركية غير جدية, وغايتها الأساسية هي إغاظة طرف آخر (الولايات المتحدة الأميركية), وأن دمشق عليها الانتظار لما بعد منتصف عام 2023 لمعرفة الرابح بالانتخابات البرلمانية والرئاسية ثم تحدد موقفها, بينما ذهب وزير خارجية الأسد فيصل المقداد لأبعد من ذلك عندما طالب الأتراك بسحب جيشهم من سوريا قبل الحديث عن أي مصالحة بين دمشق وأنقرة أو على الأقل وضع خطة مجدولة زمنياً للانسحاب, وأن تتعهد أنقرة بوقف دعمها “للمجموعات المسلحة” المعارضة.    

لكن تصريحات الرئيس أردوغان رسمت خارطة طريق المصالحة التركية، خارطة وُضعت لها محطات يجب أن تعبرها لتصل لمرحلة لقاء القمة، وأن اللقاءات الأمنية بين مسؤولي دمشق وأنقرة ستشكل البداية، ثم يجب حصول تلاقٍ بين وزارتي دفاع البلدين لرسم خريطة الوجود العسكري، ووضع الخطط العسكرية التي تضمن أمن الحدود، وتطرد كل من يهدد استقرار البلدين وخاصة في شرقي الفرات، ثم الوصول للقاءات بين وزارتي خارجية البلدين لوضع النقاط على الحروف، ووضع برنامج عمل طاولة لقاء القمة التي ستجمع الرئيس أردوغان برئيس النظام السوري.

ما صرحت به بثينة شعبان وطالب به فيصل المقداد, جاء الرد عليه من قبل الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن, الذي أكد أن لقاء أردوغان بالأسد ليس مجانياً, وأن هناك شروطاً على نظام دمشق تجاوزها لحصول اللقاء, وقال: إن أي لقاء مع نظام دمشق لن يكون على حساب حلفاءنا في المعارضة السورية، وأنه على القيادة السورية أن تتصرّف بمسؤولية، وأن تبدد كلّ المخاوف التركية، وأن تتعامل وفود نظام دمشق مع مفاوضات المسار السياسي بإيجابية، مع شرط تحقيق نتائج إيجابية ملموسة بأقرب وقت ممكن، وأن يضمن نظام الأسد حماية اللاجئين المدنيين العائدين إلى مناطقه، وأن يعمل الأسد على ضمان السلامة والاستقرار الإقليميين، وفرض الأمن والانضباط والاستقرار على كامل الحدود السورية التركية من الجانب السوري.

والمتابع العارف بقدرات وإمكانيات نظام الأسد وتوجهاته، يُدرك أن بشار الأسد عاجز تماماً عن الإيفاء بأي من الشروط والطلبات السابقة، وكأن ما أعطته تركيا بيدها اليمنى من تصريحات وطلب للمصالحة مع دمشق عادت بتلك الشروط لسحبها بيدها اليسرى.

لكن تركيا تُدرك أيضاً أن حلفاءها بالمعارضة السورية سببوا لها الكثير من الضيق, فالائتلاف الوطني قُطعت عنه الأموال منذ ثلاثة أشهر (قصداً) لأسباب تتعلق بالفساد أو اختلاس أموال ومطالبتهم بتخفيض رواتبهم بنسبة 30%, وأن عمل الائتلاف أصبح شبه متوقف, وحتى الموظفين العاديين لم يعد لهم القدرة على الحضور لعملهم ومكاتبهم نتيجة انقطاع رواتبهم, ولولا أن أحد أعضاء الائتلاف الميسورين قام بتسديد آجار بناء الائتلاف المتأخر عليهم لمالكه التركي, لكان طردهم وأغلق لهم مكاتبهم, أما فصائل المعارضة بالجيش الوطني فخلافاتها ونزاعاتها وصراعها حول المكاسب والنفوذ والسلطة خرجت للعلن ولم تعد خافية على أحد, وما حصل مؤخراً بين الجبهة الشامية وفرقة الحمزات كان واضحاً, ودخول الإرهاب الجولاني لعفرين هز أركان المنطقة, ونتيجة ذلك لم تعد المعارضة بشقيها السياسي والعسكري مصدر اطمئنان لراعيها التركي, بل أصبحت مصدراً للمشاكل والضيق, وقد يكون هذا الواقع المترهل للمعارضة أحد أسباب انعطاف أنقرة نحو دمشق.    

أما بخصوص العملية العسكرية التركية بالشمال السوري فقد خفت التصريحات التركية بشأنها, والبعض الذي كان يتوعد حصولها ما بين صباح ومساء, وأن سويعات قليلة تفصلهم عن تحديد ساعة الصفر, لم نعد نسمع لهؤلاء صوتاً, فتعدد الرافضين للعملية, وتحول الأهداف, والحكمة السياسية لصانع القرار السياسي في أنقرة, قد تكون علمت أن أي عملية عسكرية تركية في مرحلة حساسة سياسياً واقتصادياً وانتخابياً, يجب أن تكون مدروسة بعناية ودقة متناهيتين, لأن المغامرة قد تكون قاتلة في تلك الظروف, لذلك تم تأجيل أو إلغاء العملية في هذا الوقت, وقد يكون التأجيل هو الخيار الأفضل إذا ما حدث اللقاء (المستبعد) بين أردوغان والأسد, من أجل وضع خطة عسكرية شاملة ومتعددة الأطراف بحسب ما تم التوافق عليه في طهران.

هناك من قال إن الطرح التركي لم يتأت من فراغ بل ضرورة يفرضها الواقع لتحريك الملف السوري باعتبار تركيا أكبر المتضررين من حوالي 11 مليون سوري يتوزعون ما بين أراضيها ومناطق نفوذها, وأن الطرح التركي بالمصالحة مع الأسد إن لم يثمر عن نتائج إيجابية, فهو على الأقل سيحفز على تحريك بقية الأطراف ذات العلاقة بالملف السوري, وبالتالي تسعى أنقرة لإعادة الدفء للملف السوري وإعادته لدائرة الاهتمام على طاولات البحث السياسي الإقليمي والدولي, لكن البعض الآخر ذهب لأبعد من ذلك بتفسير الخطوات والتصريحات التركية اتجاه نظام دمشق, واعتبرها مناورة سياسية ليس إلا, غايتها حرق المراحل, وتجاوز الزمن, وسحب أوراق ضاغطة من يد المعارضة التركية, ومن ثم الوصول لموعد صناديق انتخابات عام 2023 دون تحقيق أي من الوعود التركية التي أٌطلقت باتجاه نظام دمشق.