في يوم الثلاثاء الماضي كشف موقع ” ” BreakingtheNews عن فيديو مسرب لاجتماع في البيت الأبيض بشهر تشرين الثاني\نوفمبر الماضي، وصف فيه الرئيس الأميركي جو بايدن الاتفاق النووي مع إيران الموقع من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما عام 2015 بـ”الميت”.
يأتي هذا الكلام من شخص أثار الكثير من اللغط والجدل، في الولايات المتحدة الأميركية وعند العديد من حلفاء واشنطن بالخارج، لما أعلن عند ترشحه للانتخابات الرئاسية عام 2020 عن عزمه العودة للاتفاق النووي مع إيران الذي سحب الرئيس دونالد ترامب توقيع الولايات المتحدة منه عام 2018، وعند توليه الرئاسة استأنف منذ شهر نيسان 2021 جولات مفاوضات مع إيران في فيينا من أجل إعادة إحياء الاتفاق النووي.
هذا يعني بأن الرئيس الأميركي يعرف، أو أنه أصبح مقتنعاً الآن، بأنه لا يستطيع إحياء “الميت”، وبالتأكيد أنه لا يريد محاولة ذلك، كما أن كلامه يعني بأنه ينسحب من محاولات استغرقت عاماً وأربعة أشهر، حتى شهر آب\أغسطس الماضي، من أجل إحياء ذلك الاتفاق، أصر فيه الرئيس الأميركي، وآخرها بشهر تموز\يوليو الماضي في زيارتيه لإسرائيل والسعودية رغم معارضتي تل أبيب والرياض، على المضي قدماً والاستمرار في محادثات الاتفاق النووي الإيراني.
يجب هنا العودة للوراء قليلاً، من أجل تحديد متى وكيف أصبح الرئيس الأميركي مقتنعاً بموت الاتفاق النووي، الذي كان يعرف بأنه أصيب بطعنة نجلاء عندما انسحب منه ترامب في أيار 2018 ولكنه ظل يصر على قابليته للعودة للتعافي بالتعاون بين الأبوين الأميركي والإيراني، وهنا على ما يبدو أن هذه القناعة قد وصلت لبايدن في الفترة التي تلت تقديم مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بيوم 8 آب\ أغسطس الماضي لمسودة اتفاق وصفت من قبله بأنها “العرض النهائي” وقبلتها واشنطن ورفضت طهران اعتبارها “نهائية” وطالبت بالتفاوض حولها.
في هذا الصدد، يجب ربط كلام بايدن مع كلام جون كيربي، أيضاً في يوم الثلاثاء الماضي وكذلك الذي أورده الموقع المذكور، عندما تحدث منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأميركي عن أن واشنطن لم يعد الاتفاق النووي الإيراني هو “موضع اهتمامها الآن” وأن هذا الاتفاق “لم يعد ممكناً الآن” وذلك بسبب “تزويد طهران لروسيا بالطائرات المسيًرة”،وهو الأمر الذي بدأ الكشف عنه منذ أيلول\سبتمبر الماضي.
إذا أخذنا كلام بايدن المذكور فهذا يعني نهاية حقبة بدأت في عام 2009، تحركت على إيقاعها كل أحداث منطقة الشرق الأوسط وتحددت بها، حقبة رُسِمت معالمها مع بدء مفاوضات سرية أميركية- إيرانية في مسقط، بادرت لها إدارة الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، حول الملف النووي الإيراني من أجل عقد اتفاق يوقف أو يحدد سقوف برنامج تخصيب اليورانيوم الذي استأنفته طهران في شهر آب\أغسطس 2005، وهو ما أنهى تحالفاً أميركياً- إيرانياً ظهرت معالمه في العراق المغزو والمحتل عام 2003 وافتتح مجابهة أميركية- إيرانية كانت من محطاتها بالوكالة الإسرائيلية عن واشنطن وحزب الله عن طهران حرب تموز\يوليو 2006 بلبنان ثم محطتها الثانية في غزة 2007 لما سقط القطاع الفلسطيني بيدي حركة حماس حليفة إيران ثم محطتها الثالثة في 7 أيار 2008 لما اجتاح حزب الله بيروت عسكرياً ومن ثم جاء اتفاق الدوحة ليكرس سياسياً سيطرة هذا الحزب على المشهد السياسي اللبناني.
هنا، كان اتفاق عام 2015 في فيينا حول الملف النووي الإيراني بمثابة مقايضة أميركية – إيرانية غضت فيها واشنطن، مقابل تحديد سقوف غير عسكرية لبرنامج التخصيب النووي الإيراني، البصر عن التمدد الإيراني في إقليم الشرق الأوسط، رغم غضب حلفائها ومخاصمتهم إياها، وعندما سحب ترامب التوقيع الأميركي على الاتفاق كان هناك حبور عظيم في الرياض وتل أبيب، وعندما أراد بايدن العودة له وإحيائه كان هناك التوجس والغضب عند هؤلاء الحلفاء لواشنطن.
الآن، يجب البحث عن من تسبب بموت الاتفاق، حيث يوحي كلام كيربي بأن طهران هي السبب من خلال بدء تعاونها العسكري مع روسيا في الحرب الأوكرانية وليست واشنطن هي هذا السبب، هذه الحرب التي تسببت في وصول العلاقات الأميركية- الروسية، حسب وصف السفير الروسي في واشنطن أناتولي أنطونوف، إلى “المرحلة الجليدية”، أي روسيا التي اعتبرها وزير الخارجية الأميركية أنطوني بلينكن “دولة متحدية” للولايات المتحدة فيما قال عن الصين بأنها “دولة منافسة” في وضع يجعل بكين الآن أمام واشنطن ما كانت عليه موسكو السوفياتية في زمن الحرب الباردة الذي كان فيه نظام الثنائية القطبية الأميركي- السوفياتي، ويبدو من كلام بلينكن أن روسيا هي في درجة ثانية من الخطورة بالقياس للصين، وأن هذه الخطورة لا تأتي فقط من ما فعله بوتين بغزو أوكرانيا بل أساساً من التحالف الروسي- الصيني الذي تعزز كثيراً في فترة ما بعد الحرب الأوكرانية.
هنا، يمكن القول، بل المغامرة بالقول، بأن السيد علي الخامنئي يشاطر جو بايدن القول بأن اتفاق 2015 النووي الإيراني قد أصبح ميتاً، ويبدو من جواب طهران في 15 آب\أغسطس الماضي على مسودة بوريل بأن السيد الخامنئي قد سبق بايدن في هذا الاعتقاد، وهذا يعني بأن هناك احتمالاً في اتجاه إيران نحو سياسة “العتبة النووية” التي قال بها مستشار الخامنئي، أي الدكتور كمال الخرازي، في مقابلته مع محطة “الجزيرة” في تموز\يوليو الماضي، أي امتلاك القدرة التقنية على صنع القنبلة النووية والتوقف عند هذه العتبة وعدم تجاوزها نحو صنع القنبلة، وربما، وهذا احتمال وارد وممكن، صنع القنبلة وامتلاكها بعمل انفرادي كما فعلت كوريا الشمالية ومن ثم إجبار “الآخرين” على التفاوض وفق الأمر الواقع المستجد.
في هذا الصدد، يجب مراقبة ما جرى منذ أيلول \سبتمبر الماضي، عندما كان توقف مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني مترافقة مع زيادة تقارب طهران مع موسكو وبكين، ولا يعرف في هذا الصدد إن كانت إدارة الظهر الأميركية لتلك المفاوضات لها علاقة ببدء الاضطراب الإيراني المجتمعي منذ 16 أيلول\سبتمبر، في مراهنة معينة من واشنطن على إسقاط النظام الإيراني، كما لا يعرف إن كان وصول السلطة الإيرانية لذلك الموقف المماثل للأميركان تجاه تلك المفاوضات له علاقة بذلك الاضطراب، الذي يؤكد ما قاله محافظون إيرانيون عارضوا اتفاق 2015 عن أن أي انفتاح سياسي على الغرب سيقود إلى تقوض النظام الإسلامي الإيراني، كما حصل للاتحاد السوفياتي بعد سياسة الوفاق والتعايش السلمي مع الغرب بالسبعينيات، مادام ذلك سيتبع بانفتاح اقتصادي وثقافي على الغرب ستتلقفه فئات اجتماعية إيرانية غير راضية بالواقع القائم من أجل عملية الدفع نحو إسقاط النظام الإيراني وإقامة نظام جديد، كما حصل للاتحاد السوفياتي بين عامي 1985 و1991.