فهم الأزمة السورية المستمرة

من الواضح أن الحرب الرئيسية في سوريا هي صراع يعارض النظام وشعبه، إلا أنها انتهت بعد انتصار الأسد رغم سيطرته فقط على ثلثي البلاد، حيث لا تزال هناك بعض جيوب المقاومة في جميع أنحاء البلاد بما فيها الجماعات السلفية في الشمال الغربي في إدلب والمناطق التي يسيطر عليها الكرد في الشمال الشرقي. ولا يدخل الأسد في حرب مباشرة مع الكرد، لكنه يواصل قصف إدلب التي تسيطر عليها الحركات السلفية.

لا تزال سوريا مسرحاً للمواجهة بين إيران وإسرائيل، وقامت روسيا بتنصيب نفسها كوسيط بين الدول المتحاربة، كما أن الجيش التركي يواصل حربه ضد الكرد السوريين (وحدات حماية الشعب). دعوناً أيضاً لا ننسى الصراع بين الولايات المتحدة (وحلفائها) وتنظيم الدولة الإسلامية في الشمال الشرقي من البلاد رغم أن مسلحي الأخيرة حديثي الولادة. تبقى الدولة الإسلامية السبب في نشر القوات الخاصة الأميركية والفرنسية في الشمال الشرقي من البلاد، وهذا ما أدى إلى حدوث توترات دائمة بين النظام السوري وروسيا (وإلى حد ما تركيا) من طرف والغرب من طرف آخر في سوريا، وأدى إلى تشابك الأطراف بشكل وثيق يدعمه التوترات المستمرة بين روسيا وتركيا وإيران من جهة والغرب من جهة أخرى، فضلاً عن الجهود الواسعة التي تبذلها جامعة الدول العربية لتطبيع العلاقات مع دمشق، وكانت رحلة الأسد إلى الإمارات العربية المتحدة في آذار/مارس 2022 أول زيارة رسمية له إلى دولة عربية منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011. بالطبع، إن إقامة أي علاقة مع سوريا يعتبر اعتراضاً لسياسة الغرب. فيما يتعلق بوجود الدولة الإسلامية وحلفائها، لم يتم القضاء على التنظيم في العراق، وهناك علاقة بين ما يحدث في العراق وسوريا فيما يتعلق بمسألة الإرهاب – ولا يمكن استبعاد عودة ظهور الدولة الإسلامية في سوريا.

ليست هناك أي بوادر حل للنزاع في سوريا في الوقت الحالي رغم تنفيذ السياسات الإنسانية. إن الغالبية العظمى من السوريين، سواء كانوا تحت سيطرة الأسد أم خارجها، يعيشون تحت خط الفقر ويعانون من المجاعة والأمراض المعدية. ووفقاً لآخر التقديرات، استمر عدد السوريين المحتاجين للمساعدات الإنسانية في الزيادة منذ كانون الثاني/يناير ليصل إلى 14.6 مليون شخص (من إجمالي عدد السكان البالغ 18 مليون نسمة). كما تفاقمت مسألة انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء سوريا بسبب الصراع في أوكرانيا الذي أدى إلى ارتفاع أسعار الطاقة والقمح.

للأسف، يقوم النظام السوري وبشكل روتيني بمصادرة الإمدادات القادمة من قوافل الإغاثة التي ترسلها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وحتى قبل بضع سنوات، كانت الأمم المتحدة قادرة على تجنب دمشق من خلال استخدام المعابر الحدودية لإيصال المساعدات الإنسانية إلى أن نجحت القوات الروسية في إغلاق جميع المعابر تدريجياً. وبينما لا تزال إحداها مفتوحة في الشمال الغربي، فمن المرجح أن تستخدم روسيا حق النقض لمنع تجديد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2642 الذي يسمح بوصول المساعدات الإنسانية عبر الحدود إلى سوريا.

بالإضافة إلى ذلك، إن عدد السوريين الذين يعيشون في منازلهم حالياً أقل من عدد الذين أجبروا على الفرار، سواء إلى أماكن أخرى في سوريا أو خارجها. وتشكل مسألة اللاجئين السوريين عبئاً ثقيلاً على دول مثل تركيا ولبنان والأردن، وقدمت هذه الحكومات جهوداً كبيرة لإعادتهم إلى سوريا، لكن ثبت أن هذا الأمر صعب نظراً لأن السوريين القلائل الذين اختاروا العودة إلى ديارهم إما تم اعتقالهم أو سجنهم أو تم اقتيادهم من أجل التجنيد الإجباري في قوات النظام السوري، ومع فشل محاولات الإعادة هذه، فشلت خطة روسيا الكبرى لضمان عودة النازحين السوريين بأعداد كبيرة مقابل تطبيع الأسد مع الغرب ودول المنطقة.

هناك أيضاً اتجاه باعث للقلق عندما تعتبر بعض البلدان، بما فيها فرنسا، أن البلد بات “مستقراً”، لإعادة طالبي اللجوء السوريين إلى سوريا. يجب إدانة هذا الاتجاه بشدة.

إن العقبة التي تحول دون حل النزاع ليست عدد الجهات الفاعلة بل طبيعة النظام نفسه. تعتبر سوريا فسيفساء من الأقليات الموروثة من العهد العثماني، وإن التركيبة السكانية “العثمانية” للبلاد إلى جانب طبيعة نظامها هي ما تجعل سوريا مميزة للغاية إلى يومنا هذا. إلا أن السلطة يمارسها ديكتاتور، وهذا الديكتاتور مدعوم من قبل سلالة، وهذه السلالة تسيطر على الأقلية العلوية، وتسيطر الأقلية العلوية على الأغلبية السنية من خلال تحالف مع أقليات أخرى واختيار بعض النخب السنية. إنه نظام سلطة غريب للغاية ومن الصعب إسقاطه، وكان تأليب الأقليات ضد الأغلبية السنية مجرد لعبة من أجل النظام، وسرعان ما تمكن الأسد من ترسيخ الرواية القائلة بأن الصراع كان بين طرفين، وأن هذا الصراع كان مدعوماً من الخارج، وهذا يجعل من الصعب الاتفاق على عملية تسوية، خاصة وأن النظام السوري وحشي ولا هوادة فيه ومرن بطبيعته.

المشكلة الحقيقية ليست في تعدد المصالح بين الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية، بل في حقيقة أن هذه المصالح لا تتماشى مع بعضها البعض. ففي البداية، شكلت إيران وروسيا تحالفاً لدعم النظام، في حين أرادت الدول الغربية والعربية الإطاحة به (أو على الأقل أن يخضع لتغيير جذري). ولكن في مرحلة ما، توصلت تركيا إلى اتفاق مع إيران وروسيا للانخراط في إدارة الصراع بدلاً من حله.

ومهدت مناطق خفض التصعيد المتفق عليها بشكل مشترك الطريق أمام تركيا لكسب النفوذ، ومهدت الطريق لروسيا وإيران لإحراز تقدم في استعادة البلاد لصالح النظام. وتمكن بشار الأسد من التشبث بالسلطة بسبب الكوكبة الميمونة التي شكلتها إيران وروسيا وإسرائيل، إلى جانب الأميركيين والأتراك المحايدين إلى حد ما الذين بدأوا يرون بعض المنطق وراء بقاء الأسد في السلطة.

هذا الخلط من الظروف لم يسمح للأمم المتحدة بإنشاء عملية لإيجاد حل، ويبقى السؤال الحقيقي ما إذا كان من المنطقي أن تحتفظ الأمم المتحدة بمبعوث خاص لها في سوريا، حيث من المفترض أن يجمع الدبلوماسي الأطراف المختلفة في جنيف، لكنها كانت استفزازية وتم تخريبها من الداخل من قبل روسيا ونظام الأسد. كما أن الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة وأوروبا لم تلتزم بإصلاح مسار الأمم المتحدة غير الفعال، وأطلقت روسيا مسار أستانا مع إيران وتركيا، ويجب أن نشير إلى أنهما فعلتا ذلك دون الحصول على أي شيء من النظام. وبالإضافة إلى ذلك، تضطلع الأمم المتحدة بدور كثيراً ما يكون موضع خلاف من خلال وكالاتها المختلفة التي تسهم إسهاماً كبيراً في إدارة الجهود الإنسانية للصراع.

لا يحظى النظام بشعبية كبيرة، لكن مرونته لا تعتمد على شعبيته، ومعاقل الأسد نفسها ليست محصنة ضد التمرد، كما يتضح ذلك من الانتفاضات في السويداء ودرعا وبعض المجتمعات الدرزية، بل إن الأقلية العلوية تضمر استياءً شديداً ضد عائلة الأسد وحلفائها في دمشق، وعانى العلويون أكثر من بقية السكان ولو نسبياً في بعض الأحيان.

وفي القرى العلوية الفقيرة، تم قتل العديد من الشبان وتشويه جثثهم أثناء دفاعهم عن النظام ضد التمرد. ومع ذلك، فإن القاعدة العلوية مقتنعة بأنه إذا سقط الأسد من السلطة، فإنها ستجد نفسها تحت رحمة سخط الأغلبية السنية. ويعتمد نظام الأسد على الإرهاب ودعم المجتمع له للبقاء على قيد الحياة، ومن غير المرجح أن يتغير الوضع ما دامت إيران وإسرائيل وروسيا تدعم الأسد.

اكتسبت تجارة المخدرات بما فيها الكبتاغون أهمية كبيرة. ارتبط هذا النوع من المنشط بجهادي تنظيم الدولة الإسلامية، وتوفر هذه الصناعة غير القانونية الدعم لنظام الأسد وللعديد من أعدائه أيضاً. وفقاً للتقديرات الأخيرة، فقد بلغت قيمة صادرات الكبتاغون 3.5 مليار دولار – في بلد يقدر إجمالي الناتج المحلي فيه بما يتراوح بين 20 و30 مليار دولار. وكان لتجارة الكبتاغون المتنامية تأثيراً على الأردن وتركيا والعراق، مع أنها كانت مخصصة في البداية للاستخدام في دول الخليج ومصر وأوروبا. ولتنمية هذه الصناعة، اعتمدت سوريا على إيران وخاصة جماعة حزب الله اللبنانية القوية والمدعومة من إيران، والتي لها تاريخ طويل في تهريب المخدرات. ويعتبر الكبتاغون الآن أكبر الصادرات السورية وأكثرها قيمة، حيث يتجاوز جميع الصادرات القانونية مجتمعة وفقاً للتقديرات. ويمكن القول إنه أصبح سمة مميزة لنظام الأسد.

هناك ثلاث سيناريوهات محتملة لآثار الحرب الروسية-الأوكرانية على الوضع في سوريا: الأول هو الوضع الراهن، حيث يحافظ الروس على وجود كاف في سوريا للحفاظ على استقرار النظام ونفوذ كاف في المنطقة لتجنب الإخلال بالتوازن بين تركيا وإيران وإسرائيل والغرب والدول العربية. والثاني يتعلق بنفوذ إيران الذي من المرجح أن يتصاعد بالنظر إلى أن روسيا لديها موارد أقل لدعم النظام وأن اهتمام موسكو قد تحول إلى أوكرانيا، ويمكن لتركيا أيضا اكتساب المزيد من القوة مع استعداد قواتها لاحتلال أراض أكثر في شمالي سوريا. والأخير يكمن في إمكانية تحديد مصير الأسد في خيرسون وماريوبول وشبه جزيرة القرم، فإذا تعرضت روسيا لهزيمة ساحقة في أوكرانيا، من الصعب التخيل أن يواجه الأسد أي شيء، خاصة إذا استمرت إيران في مواجهة التحديات الداخلية (في ضوء الاحتجاجات الواسعة التي أعقبت وفاة مهسا أميني) والتحديات الخارجية (فيما إذا اقتربت طهران من تطوير أسلحة نووية، مما قد يؤدي إلى رد من الولايات المتحدة وإسرائيل).

حتى قبل البدء بالتفكير في حل للحرب السورية، يجب أن تتغير المصالح الروسية والإسرائيل والعربية والأميركية والغربية. هل من الممكن لجميع هذه المصالح أن تتلاقى من أجل إيجاد وسيلة للخروج من الصراع وإزالة الأسد من السلطة? هذا السؤال يكمن في قلب الأزمة السورية.

الميزة الحقيقية الوحيدة التي تمتلكها الولايات المتحدة وحلفاؤها هي الحفاظ على وجودها في شمال شرقي سوريا، وإذا ظهرت منطقة مستقلة ومستقرة ومزدهرة هناك (تظهر ما يمكن أن يحققه السوريون عندما يتحررون من قبضة الأسد)، فإن هذا من شأنه أن يغير الواقع ويعطي المزيد من القوة التفاوضية للولايات المتحدة وحلفائها المشاركين في دعم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. من الصعب عرقلة إرادة الدول العربية الراغبة في تطبيع العلاقات مع دمشق. ولكن لا يمكن أن يطلب من الدول العربية تطبيع العلاقات إلا إذا قبل نظام الأسد وبشكل ملموس خطة اللامركزية التي تنطوي على الحكم الذاتي الكامل للمناطق المحررة.

قد تختار تركيا أيضا تطبيع علاقتها مع الأسد (وهو أمر تحاول روسيا تشجيعه) لإطلاق العنان في الشمال. فقد كان أردوغان واضحا بشأن نيته إبادة الكرد السوريين والحصول على منطقة نفوذ في سوريا ليتخلص من السوريين الذين التجأوا إلى الأراضي التركية. والأمر متروك لنا، نحن الغرب، لتوفير خيار بديل لأنقرة، حيث يتمتع شمال شرقي سوريا بالحكم الذاتي والاستقرار، ولا يمثل أي تهديد لتركيا.

المؤسسات الدولية لا تموت أبداً. ومع ذلك، هناك شيء فريد من نوعه حول القضية السورية، فقد كان للعرقلة الروسية خسائر متزايدة في مجلس الأمن الدولي منذ بدء الحرب. وتنتمي روسيا إلى هيئة مؤسسية تمنحها مكانة مميزة في العالم، لكنها لن تتردد في إعاقة أو إضعاف هذه المؤسسة على الرغم من كونها عضواً.

وأكدت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، أن القرارات لم تعد تتخذ من قبل مجلس الأمن ولكن من قبل الجمعية العامة و”تحالفات الراغبين”. وإذا لم تثبت سوريا لمجلس الأمن أنها تمثل بداية النهاية، فستكون على الأقل قد أضعفت إلى حد كبير هذه الهيئة الرمزية.

أنشأت الأمم المتحدة والجمعية العامة “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة” لجمع الأدلة التي يمكن استخدامها يوماً ما في عملية قضائية ضد النظام والدولة الإسلامية. وتمثل الآلية خطوة إلى الأمام في مجال العدالة الجنائية الدولية، إلا أن هذا لم يكن كافياً لتحريك نزع الشرعية عن نظام الأسد ويبدو أن الرأي العام الدولي اعتاد على ندوب الجريمة.

هذا يقودني إلى إلقاء نظرة مختلفة على المسألة الأوكرانية، حيث يبذل الأوكرانيون جهودهم الخاصة لجمع أدلة حول جرائم الحرب التي ارتكبها الروس، لكن لن يكون هذا الجهد كافياً، فهو لا يغير وجهة نظر الجمهور ويحافظ على مظهر الشرعية في نظام إجرامي. وطالما لا توجد محكمة، فإن هذه الجهود ستبقى ناقصة. هذا يقودنا إلى طرح السؤال التالي: ألا ينبغي لهذه القضية أن تبرر لإقامة محكمة خاصة? لن يكون هناك شيء لسوريا (أثبتت القضية السورية أنها لن تحشد الاهتمام الكافي). بالنسبة لروسيا وأوكرانيا، يمكن إنشاء محكمة خاصة ولكن من المحتمل أن تنظر في جرائم “العدوان” التي لا يمكن الحكم عليها من قبل المحكمة الجنائية الدولية (تنظر المحكمة الجنائية الدولية في جرائم العدوان لصالح الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي فقط، والذي لا ينطبق على روسيا ولا على أوكرانيا). فإذا ما تم إنشاء محكمة خاصة في يوم من الأيام من قبل المجتمع الدولي لمحاسبة روسيا (أو على الأقل قادتها)، فقد نتمكن من أن نعكس اتجاه الإفلات من العقاب على جرائم الحرب التي ارتكبها نظام الأسد في سوريا. 

المقال كتبه ميشيل دوكلوس لمعهد مونتين الفرنسي وترجمته نورث برس