التدخل الروسي وتغيير مسار الأزمة السورية

في خريف عام 2015 وتحديداً مع بدء التدخل العسكري الروسي المباشر في الأزمة السورية بدأت مرحلة جديدة في مسارها. بالطبع كانت قد سبقت التدخل الروسي تدخلات دول عديدة عربية وإقليمية وبعيدة ساهمت في تأجيج الصراع المسلح في البلد. لقد ساهم التدخل العسكري والسياسي الروسي المباشر في الأزمة السورية في تغيير مسار الأزمة. وذلك من خلال: أولاً؛ منع انهيار السلطة المركزية في دمشق، وأعاد التوازن إلى الميدان خلال السنة الأولى من تدخله، ليجعله يميل بصورة حاسمة لصالح الجيش السوري في سنته الثانية وما بعدها.

ثانياً، غير المعادلة الإقليمية لجهة الحد من تدخلها في الأزمة السورية دعماً للقوى الجهادية المتطرفة، فصارت جميع القوى المتدخلة في الأزمة السورية تدرك استحالة إسقاط النظام بالقوة، فأخذت تميل إلى الحل السياسي، وإلى الواقعية بالتعاطي معه.

ثالثاً؛ لقد ساهم مسار أستانا الذي عمل عليه الروس بالتعاون مع إيران وتركيا في بسط السلطة المركزية على مناطق واسعة من البلد.

مشهد سوريا اليوم تشكله ثلاث مناطق نفوذ، هي: منطقة نفوذ أميركي في الشمال الشرقي محمولة على قوى كردية بصورة رئيسة، ومنطقة نفوذ تركية في الشمال الغربي من سوريا، محمولة على مجموعات متطرفة وإرهابية، ومنطقة نفوذ روسية إيرانية محمولة على النظام السوري، هذا عداك عن منطقة الاحتلال الإسرائيلي.

تعد منطقة النفوذ الروسي الإيراني المنطقة الأهم ليس فقط من ناحية عدد السكان المتواجدين فيها، وشمولها للمدن السورية الرئيسة، بل أيضاً من ناحية ما تمتلكه من عوامل القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية. يتنازع هذه المنطقة نفوذان روسي إيراني بصورة مستترة غالباً بسبب اختلاف مصالح الأطراف الفاعلة فيها. فالنظام يريد عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، أما إيران التي تحسب سوريا جزءاً من مناطق نفوذها ومجالها الحيوي، فهي تتبنى أطروحات النظام مع بعض التعديلات غير الجوهرية. أما بالنسبة لروسيا كدولة عظمى فلديها دائماً خيارات، إحدى هذه الخيارات المفضلة يركز على مسار جنيف التفاوضي الذي نجحت بحصره في سلة واحدة وهي السلة الدستورية. من الواضح أن الرؤية الروسية تحظى اليوم بقبول أطراف دولية عديدة، فهي المخرج المناسب لها من الأزمة السورية.

في الآونة الأخيرة حصلت تغييرات مهمة على العلاقات الدولية، خصوصاً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، أدت إلى إزاحة الأزمة السورية من واجهة الأحداث الدولية، ومن أولويات العديد من الدول المتدخلة فيها.  مع ذلك نجح الروس في جعل النقاش الدولي يتمحور حول ثلاث قضايا حاسمة للخروج منها وهي: إعداد “دستور جديد”، و”إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية متزامنة” تحت “رقابة دولية”، وفق أعلى “معايير الشفافية والمصداقية” كما جاء في القرار 2254. مع ذلك لا يوجد تصور مشترك لا دولياً (بين روسيا وأميركا)، ولا إقليمياً (بين إيران وتركيا)، ولا محلياً بين (النظام ومختلف قوى المعارضة السورية)، حول هذه القضايا الثلاث المحورية، وهذا بحد ذاته يشكل عقبة كبيرة أمام الحل. رغم ذلك تسعى روسيا لكي يتأسس أي حل محتمل على جملة من المعطيات السياسية الواقعية نذكر منها:

1-تغير موازين القوى لمصلحة النظام وحلفائه، وتراجع نفوذ الدول التي دعمت المعارضة المسلحة في الساحة السورية.

2-تحولات سياسية مهمة لدى كثير من الدول التي دعمت المعارضة السورية سواء السياسية أم المسلحة منها، لجهة القبول ببقاء النظام في أية تسوية سياسية محتملة مع بعض التعديلات غير الجوهرية.

3-ضغط روسيا لتجاوز جميع القرارات الدولية التي صدرت بخصوص الأزمة السورية، والعمل على جعل الحل السياسي توافقي بين النظام والمعارضة من خلال إجراء حوار مباشر بينهما. في ضوء المعطيات السابقة تسعى روسيا إلى:

  • أ-استمرار الحالة الراهنة (حالة اللاحرب واللاسلم) على الأقل إلى موعد الانتخابات الرئاسية السورية القادمة، إذ يتم عندئذ إعداد دستور جديد ينص على بقاء النظام الرئاسي مع إدخال بعض التعديلات على صلاحيات الرئيس.
  • ب- النص على حق الرئيس بالترشح لولايتين جديدتين.
  • ت-الاحتفاظ بالأجهزة العسكرية والأمنية على حالها، دون تغيير يذكر.
  • ث- نقل بعض الصلاحيات إلى المحافظات من خلال تفعيل قانون الإدارة المحلية.
  • ج-منح الكرد بعض حقوقهم الثقافية.
  • ح-تشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها المعارضة، وتمنح صلاحيات أكبر خصوصاً لجهة العمل على إعادة الإعمار، وتطبيع الحياة السياسية والاجتماعية، وتأمين عودة المهجرين والنازحين إلى مناطقهم.

كلمة أخيرة، رغم ما يبذله الروس من جهد دبلوماسي لتفعيل مسار جنيف التفاوضي فلا يمكن الرهان عليه لحل الأزمة السورية، فالنظام لا يزال يعاند ويتنصل من التزاماته مستفيداً من هامش المناورة المتاح له بين إيران وروسيا، هذا عداك عن أن الظروف المحلية والإقليمية والدولية لحلها لم تنضج بعد بل ازدادت تعقيداً بعد تفجر الأزمة الأكرانية. وفي مجمل الأحوال ينبغي العمل على أن يكون الحل سورياً خالصاً قدر الإمكان، وذلك من خلال عقد مؤتمر وطني جامع في دمشق بضمانات دولية للبحث في الحل المناسب الذي يخرج سوريا من أزمتها.