كوباني .. مدينة في وجه أردوغان
كوباني- نورث برس
يفتتح لزكين عباس صباحاً محله الخاص لبيع الأحذية، آملاً أن تكون حركة البيع عنده نشطة، لكن عبثاً! فتهديدات الجارة الشمالية، أوقفت حركة البيع والشراء بشكلٍ ملفت في كوباني الواقعة على الحدود السورية التركية.
يقول عباس (37 عاماً) من محله الذي لا يبعد عن الحدود التركية أكثر من 300 متر، إن السكان خائفون من عملية برية تركية تودي بهم إلى نزوحٍ مجهول، بعد سبع سنوات من انقضاء تجربة النزوح الأولى حين هاجم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” كوباني.
في ليلة 20 تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، شنت الطائرات التركية هجمات جوية كانت أولها على سفح تلة مشته نور جنوبي كوباني، سببت دماراً في البنى وخوفاً في نفوس السكان.
أعلام النار جنب الدار
تقع كوباني على الحدود التركية السورية، سكانها يرون الأعلام التركية على الجانب الآخر بكل وضوح، وكلما شاهدوا تلك الأعلام ارتسمت الحرب والقذائف في مخيلتهم، وهي المدينة الأخيرة في الريف الشرقي لحلب، وأعلن عن تشكيل الإدارة الذاتية فيها عام 2014.
تهدد تركيا بغزو كوباني منذ سنوات، لكن حدتها ازدادت بعد تفجير إسطنبول، إذ ادعت أن مرتكبة الهجوم تلقت تعليماتها من كوباني، هذا ما نفته الإدارة الذاتية بشدة وأبدت استعدادها للمشاركة في تحقيق دولي حول التفجير.
ذاع صيت المدينة الكردية ولاقت صدىً عالمياً عندما تمكنت فرقة صغيرة من مقاتلي وحدات حماية الشعب والمرأة من صد أعنف هجوم للتنظيم المتشدد، وإخراجه من آخر شوارعها، لتكون بذرة التحالف بين الكرد والولايات المتحدة الأميركية لمحاربة “داعش”.
الشهر الفائت، قال الجنرال مظلوم عبدي، القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، وينحدر من نفس المدينة، إن الهدف الحقيقي للغزو البري العسكري المحتمل لتركيا هو مدينة كوباني.
أشار عبدي إلى أن تركيا تريد الاستيلاء على كوباني بهدف ربطها بمدينة أعزاز شمالي حلب وبمدن أخرى كانت قد “احتلتها” عام 2019، أي ربط عفرين، أعزاز، الباب، كوباني، تل أبيض وسري كانيه ببعضها.
السياسي الكردي، أنور مسلم، وهو أول رئيس لمقاطعة كوباني عندما تأسيس الإدارة الذاتية فيها، يقول إن تركيا تريد القضاء على تجربة ديمقراطية أسسوها في الشمال السوري.
“تريد مهاجمة كوباني بهدف إفشال الادارة الذاتية وتدمير المدينة التي أصبحت رمز هزيمة داعش، لذلك تتحجج بتهديدات على أمنها القومي”.
يرى مسلم أن المجتمع الدولي بات صديقاً للكرد ولقضيتهم، ولا يعتقد أن “التحالف الدولي شريكهم الوثيق سيتخلى عن مدينة كوباني التي قدمت آلاف الشهداء من أجل درء خطر داعش على المجتمع الدولي”.
ثقة مهزوزة بالحلفاء
لكن لزكين عباس ونسبة من السكان يخالفونه الرأي إذا باتت ثقتهم مهزوزة بالحليف الذي تخلى عنهم قبل ثلاثة أعوام، ويقول “أصبحنا مثل كرة القدم تارة ضحايا في ملعب أميركا وتارة أخرى في ملعب روسيا”.
لا تبدو المشاهد العامة في المدينة أنها توقفت عن الحياة بسبب التهديدات التركية، يبدو أن السكان لديهم أمل ولو ضئيل ألا يغادروها خاصة أنهم خبِروا مرارة النزوح سابقاً.
إن هاجمت تركيا كوباني دون موافقة المجتمع الدولي فهي تضرب كل المواقف الدولية عرض الحائط دون اكتراث للقوى الدولية في المنطقة وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية وهذا طبعاً سيأزم الوضع كثيراً، بحسب أنور مسلم.
يبدو أن تركيا وقعت في مأزق سياسي لا تحسد عليه، إن هاجمت كوباني أو مناطق أخرى شرق الفرات، فهي تعقد العلاقة المتأزمة أصلاً مع أميركا، وإن هاجمت غرب الفرات، فتتأزم الأمور مع روسيا وإيران، يضيف السياسي الكردي.
يرى مسلم أن المجتمع الدولي مطالب بالنظر جدياً إلى خطورة عودة داعش، وإيجاد حل جذري للآلاف من عناصر “داعش” المعتقلين في سجون الإدارة الذاتية، ولأجل هذا يجب وقف الهجمات التركية.
كانت هناك نداءات من قبل قيادة “قسد” لعقد محادثات تفضي إلى حل مع تركيا، لكنها لم تلقَ آذاناً صاغية.
في صدارة اللقاءات
في خريف 2019 إبان هجومٍ تركي تمكنت فيه من السيطرة على سري كانيه (رأس العين) وتل أبيض اتصل كل من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ووزير الدفاع الروسي الحالي سيرغي شويغو، بالجنرال مظلوم عبدي لبحث التهديدات التركية.
ترامب وعد الجنرال الكردي بإيقاف الهجمات وحماية كوباني من هجوم تركي جديد، وشويغو قال إنه لا داعي لنزوح سكان من مناطق دخلوها فهم موجودون من أجل حماية المنطقة.
المواقف الأميركية والروسية خلال التصعيد التركي الأخير رفضت عمليات جديدة وتمكنت من كبح هجوم بري جديد.
لكن مراقبون يرون أن الهجمات لازالت ممكنة والتهديدات مستمرة خاصة بعد رأس السنة تزامناً مع قرب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في حزيران/ يونيو القادم.
السكان لا يثقون بالمواقف الدولية، خاصة بعد سقوط عفرين ومكالمة ترامب الشهيرة مع أردوغان والتي منح فيها ضوءً أخضراً لتركيا.
عندما كان جو بايدن الرئيس الأميركي الحالي، يروج لحملته الانتخابية وعد أنه لن يتخلى عن الكرد كما فعل ترامب في تلك المكالمة.
نهاية الشهر الماضي دعا قائد “قسد” الرئيس الأميركي جو بايدن إلى الوفاء بوعوده في حماية الكرد ومدنهم.
قال مظلوم عبدي لصحيفة “بوليتيكو” الأميركية: “نعتقد أن حماية المدن التي تأوي الكرد وعائلات الـ 12 ألف شهيد الذين قضوا إلى جانب الجنود الأميركيين ضد داعش في سوريا، تقع على عاتق الإدارة والرئيس نفسه، وهي مسؤولية سياسية وإنسانية”.
يرى السياسي والكاتب الكردي، صالح بوزان، أن كرد سوريا وقوات سوريا الديمقراطية لا يشكلون تهديداً على تركيا. فتركيا هي التي أقحمت نفسها في القضية السورية أولاً وفي القضية الكردية في سوريا ثانياً.
“ليس لكرد سوريا أي مشكلة مع تركيا، وإذا كانوا يتضامنون مع نضال الشعب الكردي في كردستان تركيا فهذا حق طبيعي لمناصرة بني جلدتهم من أجل الحصول على حقوقهم. لكن هذه المناصرة لا تتجاوز الشعارات وكلمات التضامن”.
ويتساءل بوزان من الذي يشكل تهديداً على الآخر، بينما كانت تركيا وراء تشكيل دولة “داعش” وتسليطها على كوباني وعلى عامة كرد سوريا منذ عام 2014.
يقول الكاتب السياسي إن فكرة حل القضية الكردية في سوريا، تؤرق الساسة الترك لأنهم يخشون تأثيرها على القضية الكردية في تركيا، وهذا هو السبب الجوهري في مساعي أردوغان لاحتلال باقي الشمال السوري.
حتى سكان المدينة يتساءلون، ما هذا التهديد الذي نشكله على تركيا؟، يقول سكان إنهم عكس ذلك يريدون علاقة حسن جوار وفتح البوابة الحدودية للتجارة والزيارات.
مغامرة
سببان وفق صالح بوزان قد يدفعان أردوغان إلى مغامرة عسكرية أخرى في الشمال السوري، الأول رغتبه في الاستمرار على رأس الدولة التركية في الانتخابات القادمة، هو لم يقدم شيء وبالتالي لم يبق أمامه سوى تقديم أوهام دينية وأحلام عثمانية منقرضة إلى الشعب التركي.
والثاني هو شعوره بالهزيمة على الصعيد التركي والإقليمي والعالمي. فأصبح يتسول أمام الحكام العرب. ويتدفأ بلقاءات بوتين. ويتلهف للقاء الرئيس السوري.
ويضيف بوزان أن أردوغان يستطيع الهجوم على كوباني على غفلة، ولا يعتقد أن طائرات جو بايدن أو بوتين ستصده، كما أن الحكومة في دمشق والمعارضة يفتقران إلى المسؤولية الوطنية لمواجهتها.
لكن بالطبع سيؤدي الأمر إلى عزلة كبيرة لتركيا عالمياً وإقليمياً.
لاحظنا في الاجتماع الأخير لحلف الناتو كيف وجهت وزيرة الخارجية الألمانية انتقادات لاذعة لوزير خارجية تركيا حول نية حكومته غزو شمال شرقي سوريا. هذا موقف ألماني جديد مخالف للسياسة الألمانية الموالية لتركيا تاريخياً.
يتحدث بوزان عن العقوبات الاقتصادية التي ستواجهها تركيا في حال الغزو، صحيح أنها لا تسقط دولاً لكن الاقتصاد التركي سيتعرض لهزة عميقة مع وصول التضخم إلى نسبة كبيرة، وستكون نتائج ذلك عكسية على رغبة أردوغان في توظيف هذا الغزو لرفع نسبة أصواته بين الشعب التركي ويكون سقوطه حتمياً.
الضربات الجوية الأخيرة لم تخرج السكان من مدنهم ومن كوباني بعكس ما كان يهدف إليه أردوغان، لم يغادروا مدينتهم، هذه هي خصائص المدن البطلة في التاريخ، كما يصف بوزان.
ويبدو واثقاً من كلامه بأن تركيا لن تستطيع القضاء على كوباني، أو القضية الكردية سواءً في سوريا أو في الداخل التركي، لأنها قضية وصلت إلى المحافل الدولية بقوة.
يتساءل صاحب محل الأحذية: “كيف لمدينة صغيرة مثل كوباني أن تهدد أمن تركيا المصنفة ضمن الدول القوية في الناتو!؟، أميركا وروسيا تستطيعان وضع حد لهذه الحجج الواهية”.
ويضيف متخوفاً من مستقبل غير واضح، “تخيل أن تتلف لمبة إضاءة في منزلك ولا ترغب بتغييرها لأنها مال مهدور خوفاً من النزوح، يجب أن يجدوا حلاً نحن لا نشكل خطراً على أحد، نريد أن نغيّر تلك الإضاءة دونما خوف من المستقبل”.