مضى خبر ترحيل السويد الناشط السياسيّ الكردي محمود تات، دون إثارة أي ضجيج كان يُتوقع أن يحدث داخل السويد، ذلك أن ترحيل بعض النشطاء الكرد واليساريين الترك غدا جزءاً من صفقة مفادها الانصياع التام لشروط تركيا لأجل الموافقة على انضمامها في حلف الناتو، الأمر الذي استوجب التزام الهدوء وبرود الأعصاب أثناء تنفيذ جريمة الترحيل، والأهم من ذلك القبول بفكرة التضحية ببعض البشر بوصفهم أشياء غير قيّمة ينبغي رميهم خارج السفينة وفي عرض البحر كي تبحر بهناءة.
نظرياً، لم يخطئ تات، والآخرون ممن التمسوا اللجوء في السويد حين سعوا إلى ذلك، فمنذ السبعينيات كانت هذه البلاد الخيار الأمثل للكردي المنفيّ بوصفها فاتيكان حقوق الإنسان ودوحة الديمقراطية والحياد، وفيها يمكن للكردي أن يزاول نشاطه القوميّ مستفيداً من فلسفة الحياد التي دمغت الدولة والمجتمع السويديين، فضلاً عن الحقبة اليسارية المديدة في حكم المملكة والتي أنتجت حالات تضامن مع الشعوب المضطهدة.
ولئن كانت السويد خيار اللجوء الأمثل، فإنها إلى ذلك لم تكن وجهة مثالية للتمثيل السياسي الكردي التركي في الدياسبورا والخارج، قياساً إلى مراكز صنع القرار الأوروبي، لندن وباريس وبرلين، لكنها كانت من الملاذات الآمنة القليلة التي لا تخضع للابتزاز التركي.
يُمكّننا تعقّب الأحداث فهم الآلية التي أفضت إلى خضوع السويد لشروط تركيا، أو بكلمات أخرى، فهم الأسباب التي أدت إلى خروج السويد عن حيادها وانطلاقها نحو ما يمكن تسميته البراغماتية المبتذلة والتفريط بسقف حرياتها وحضور ثقافة حقوق الإنسان فيها وضمن تشريعاتها؛ فالسويد ارتحلت صوب الناتو بعد أن تلقّت تهديداً فعلياً من روسيا وإمكانية أن تكون الهدف التالي بعد أوكرانيا، وهو الأمر الذي دفع السويديين لتفضيل الاحتماء بعضلات الناتو، لاسيما الاحتماء بالبند الخامس في ميثاق حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي يشير إلى المسؤولية التضامنية بين أعضاء الحلف حال حصول اعتداء مسلح على أراضي أي دولة عضوة.
وقد مكّن صعود أصوات اليمين السويدي من تأجيج المخاوف تجاه جدوى البقاء في عالم الحياد غير المجدي أمام حالة الاستقطاب الدولي الذي تحاول روسيا جاهدة فرضه، وأما تسارع الأحداث في الحرب الروسية على أوكرانيا فقد قطع الطريق على الأصوات الداعية للتمهّل وتوخي الحذر فيما خص الآثار الجانبية للانضمام إلى الناتو.
أيّاً تكن الأسباب التي حذت بالسويد لتقديم طلب الانضمام للناتو فإن الضحية الأولى، وربما الوحيدة، هم الكرد على ما يقوله معارضون سويديون، والدليل على ذلك القانون الذي ستقرّه السويد والذي سيطبّق في الأول من يناير/كانون ثاني من العام المقبل، والذي يسعى إلى تجريم أوسع للمشاركين في “منظمة إرهابية أو حظر تنظيم إرهابي”، فضلاً عن ملاحقة حاملي الصور والرموز والألوان التي يُفهم من أنها تهدف إلى بث دعاية لجماعة مدرجة على قوائم الإرهاب، ولعل قوس الاتهام سيمتدّ، طبقاً للإلحاح التركي، ليغطي جماعات سياسية أو مسلّحة كردية أخرى غير العمال الكردستاني، كما في مطالبة أنقرة إدراج المقاتلات والمقاتلين الكرد السوريين على لوائح الإرهاب، وهو ما يعني إحراج السويد بدرجة أكبر، ذلك أن السويد كانت تتباهى حتى وقت قريب بصداقتها مع الجماعات الكردية المسلّحة “وحدات حماية الشعب” بوصفها القوّة التي مكّنت العالم التخلّص من رعب داعش وتهديده للأمن الدولي.
في المحصلة كان محمود تات، المقيم في السويد منذ العام 2015 قد فرّ من آلة العقاب القضائية التركية إلى السويد، ولا شكّ أنه لو علم مآل الأمور التي جاءت على الشكل التالي: تهاجم روسيا أوكرانيا وتهدِّد السويد، ثم ستسعى هذه الأخيرة للانضمام للناتو، وأن شرط الانضمام سيتوقف على موافقة تركيا، وأن موافقتها تستلزم تسليم مطلوبين لها ومن بين قائمة الأسماء سيكون اسمه في المقدَّمة، لما اختار تات هذا المصير. ولئن كان توقّع حصول مثل هكذا سيناريو معقّد وغير منطقي لا يمكن أن يبلغه تحليل أيّ شخص عاقل مهما فكّر في مصيره، فإن المرارة كلّها سيشعر بها كل كرديّ آخر يسعى إلى حياة آمنة خارج أسوار تركيا.
وفي المحصلة أيضاً، رحّلت السويد لاجئاً لتقدّم هي بدورها طلب لجوئها في الناتو، رغم أصوات المفكّرين والديمقراطيين والحقوقيين الذين وصفوا علمية الترحيل/التسليم بأنها “جريمة” وأن ملف الترحيل لا بد أن يقدّم إلى لجنة التعذيب التابعة للأمم المتحدة.
في مدار الطب النفسي ثمة ظاهرة يطلق عليها “متلازمة ستوكهولم”، والتي يتعاطف فيها الشخص مع عدوّه أو محتجزه أو المسيء إليه، وليتحول التعاطف إلى تأييد لسلوك المعتدي ومساندته. وفي الأثناء، وبعد ترحيل محمود تات والتعهّد بترحيل آخرين، وزيارة رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون لأنقرة كأول زيارة خارجية، والمبالغة في إرضاء تركيا عبر إقرار قوانين تعمّم تهمة الإرهاب يلاحق بموجبها اللاجئين لاسيما الكرد، فإن الأمر يشي بإمكانية تطوّر الأوضاع بحيث تصاب ستوكهولم نفسها بما يمكن تسميته “متلازمة” أنقرة، حيث تندمج ستوكهولم في تصديق رواية الحكومة التركية حول معارضيها أو المنشقين عنها وتتعاطف معها، ولتتنازل السويد تالياً عن كل قيمها التقليدية وعن سقف حرياتها المعياري.
لا شك أن ستوكهولم ستعاني من متلازمة أنقرة، إذ إن إغضاب تركيا أسهل من إرضائها على ما تقوله علاقات تركيا مع كل دول العالم.