“السوريون المقهورون” إذ يعادون الإدارة الذاتية.. وأنفسهم

يوماً بعد آخر، تثبت السلطة التركية أن التحول الذي يطرأ على “استراتيجية تركيا السورية” ليس مجرد خيار ذاتي عابر للرئيس أردوغان، لحسابات انتخابية أو تواطؤ ما مع النظيرة روسيا، وما إلى هنالك. حيث تُؤكد مختلف الدلائل التي تبثها التصريحات والسلوكيات السياسية التركية بزخم منقطع النظير، أن ما جرى منذ ثلاثة أشهر، ويستمر كل يوم، إنما هو تبدل جذري كامل الأركان في تلك الاستراتيجية، لتشييد توافق ومصالحة وشرعنة وقبول بالنظام السوري بأي ثمن كان، بالذات على حساب تطلعات ملايين السوريين الخاضعين لتركيا، سواء عسكرياً في مناطق نفوذها السورية، أو نظرائهم اللاجئين داخل تركيا، الذين يشكلون على الأقل ثُلث الشعب السوري.

في ذات السياق، فإن تركيا تبدو مصممة أكثر من أي وقت آخر على “تحطيم” مشروع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إما عسكرياً عبر غزوة برية وإنشاء ما تسميه بـ”المناطق الآمنة” التي هي فعلياً غطاء سياسي وخطابي لعمليات الإبادة والتغيير الديموغرافية، كما فعلت في عفرين ورأس العين وغيرها من المناطق. أو عبر دفع هذه الإدارة وإجبارها للتفاوض مع النظام في دمشق، ليستعيد هذا الأخير سلطته وسطوته على هذه المنطقة، الوحيدة الخارجة عن سلطته، والمتمتعة باعتراف دولي ما، باعتبارها أمراً واقعاً على الأقل، وحاجة أمنية وسياسية للقوى الدولية على الأكثر.

بمجموع ذلكم الأمرين، يُطرح السؤال الأكثر مباشرة وجدية: فيما لو كانت الالتفاتة التركية الاستراتيجية نحو النظام السوري واقعاً لا مفر منه، الأمر الذي سيدفع ملايين السوريين ليكونوا أمام عجز مكين، عبر دفعهم ليكونوا وحيدين ومعزولين في مواجهة “غول النظام”، فما مصلحة هؤلاء في تحطيم هذه “الإدارة الذاتية، كآخر التجارب والمناطق والإمكانيات التي قد تكون في مواجهة الواحدية الأسدية، شموليته ومركزيته وإصراره على حُكم سوريا سُلالياً وأبدياً وبشكل مطلق؟”.

لا يُطرح هذا السؤال على المجتمع والبنى القاعدية لهؤلاء السوريين المهزومين، بل على طبقة واسعة من النُخب السياسية والثقافية والروحية والمجتمعية لملايين الناس هؤلاء، سؤالهم عما يمتلكونه ويركنون إليه من وعي ومهام، كطبقة عُليا مخولة لحماية حقوق ومصالح هذه المجتمعات والجماعات الأهلية، المُعتبرون افتراضاً كأناس متحلين برؤية بعيدة المدى، والقادرين على التفكير والحِساب بضمائر حارة وعقولٍ باردة، وليس العكس.

لكن، ولحدوث ذلكم، ألا يُفترض أن يكون أعضاء هذه الطبقة النُخبوية متحلين ببعض السمات والمعايير الأولية، التي من المفترض أن تتصف بها أية جماعة نُخبوية، بالذات في ظرف ومناخ سياسي بالغ الحساسية والمخاطرة، مثل الذي قد يواجهه ملايين السوريين هؤلاء، المُقبلين على إبادة سياسية ومجتمعية وثقافياً، وغالباً جنائية. أن يكونوا أقل ذاتية وأكثر موضوعية مثلاً، أن لا تصدر أحكامهم وأفكارهم من مرجعيات عقائدية إيديولوجية بالغة القسوة، مثل النزعات والخيارات القومية المطلقة مثلاً.

أن يتخلوا مثلاً، وقدر المستطاع، عن العبارات المقتضبة والجاهزة، تلك التي من مثل “الكرد الانفصاليون” “عُملاء النظام”.. الخ، والكثير التي من مثلها، التي يعرف هؤلاء في قعر وجدانهم أنها مجرد خطابات اصطنعتها الجهات المناهضة لأي مشروع ذو بنية ورغبة للاعتراف بالكرد كشركاء. يعرفون أن تلك العبارات التي خلقت طوال السنوات الماضية حواجز نفسية وسياسية بين الكُرد ونظرائهم الآخرون من الطيف السوري، والتي دفع الجميع أثمانها البالغة.

الأهم من الأمرين، أن يتمكن هؤلاء من قراءة الوقائع كما هي: ففي المحصلة ثمة تجربة ما، بكل قصورها وأخطائها، لكنها مع كل ذلك تملك سمتين رئيسيتين، فهي أولاً بؤرة في جدار شمولية النظام الذي كان يحكم البلاد، وهو أمر واضح من مدى معاداة النظام نفسه لها، تلك المعاداة التي ربما تتحول إلى حربٍ ماحقة لولا الحماية الدولية التي تتمتع بها. المسألة الأخرى كامنة في حاجة هذه الإدارة لبقية السوريين، وأياديها الممدودة لهم.

بمجموع ذلك الأمرين، ثمة خياران أمام هذه النُخب السياسية والثقافية والاجتماعية السورية: فإما التعامل الإيجابي مع هذه التجربة، ولو من باب المصلحة الضيقة والمباشرة، لتعكير سعي الأسدية لإعادة الهيمنة التامة على البلاد. وزيادة وتيرة الشروط والفروض على هذه الإدارة مقابل ذلك التعامل الإيجابي، بما في ذلك إعادة تشكيلها لتكون أكثر شراكة بين مختلف الفاعلين ضمنها.

أما الخيار الثاني فهو مناهضتها ومعادتها، تحطيمها والجلوس على أطلال بنيان الكراهية والعنف، ثم سؤال الذات ببساطة: هل أسعد هذا الأمر أحداً خلال القاهرين، وهل دفع أحد الأثمان مثل المقهورين؟!.