“أنا أصور إذاً أنا موجود”… نازح يخرج من عفرين بذاكرتين إحداهما الأرشيف المصوَّر

حلب – صفاء عامر – NPA

 

عندما يستطيع المرء أن يختزل ذاكرة بلدٍ في شريط ذاكرته، كأنّه يتحمّل أمانة حفظ تاريخ هذا البلد المهدور تاريخه وإرثه، بفعل حربٍ أكلت من أحلام أبنائها الكثير. 

 

عابدين دجلة؛ اللقب الذي حمله عابدين حسين أحمد العفريني، صاحب محل التصوير الفوتوغرافي "صوت دجلة" الذي كان يمتلكه وأخاه بمدينته عفرين، قبل السيطرة عليها من قبل فصائل المعارضة السورية التابعة لتركيا منذ الـ 18 من آذار / مارس 2018.

 

يتميّز بتقاسيم وجهٍ ودودٍ وشعرٍ أبيض لبلوغه منتصف عقده الخامس، ويتحدّث بهدوءٍ حزينٍ عمّا آلت إلى مدينته من مصائبٍ واغتصابٍ واعتداءٍ بسبب العداء التركي للكُرد، ودعمه لفصائل المعارضة، وعمله على اقتلاع سكان المنطقة الأصليين من جذورهم، عبر تغييرٍ ديمغرافيٍ متعمّد.

 

استطاع عبدين اختزال تاريخ وحضارة مدينته بذاكرةٍ سعتها التخزينية عشرون تيرا، شاهداً على عقود مدينته تصاعدياً منذ سبعينيات القرن الماضي.

 

فيقول لـ "نورث برس" عن تجربته في التصوير "اشتريت بدايةً كاميرا بالأبيض والأسود وبدأت بتصوير كل شيءٍ في قريتي (عرب حمشلك)، عائلتي، أصدقائي، الطبيعة، وحتى الحيوانات وكل شيء تراه عيني جميلاً".

 

بقي عبدين هو والكاميرا في علاقة عشقٍ مع المكان واللحظة الخاطفة، يوّثق كل ما تراه عينه، وكل ما يهواه قلبه، وكل ما يتحكم به عقله، فيضيف "ثم اشتريت كاميرا فيديو بالتسعينات وأصبحت أصور الحفلات، وأجري لقاءاتٍ مع شخصياتٍ عفرينية تتحدّث عن فلكور وعادات وتقاليد عفرين".

 

ويتابع بأسى "وثّقت كل مواسم الزراعة منذ بداية كل موسمٍ حتى القطاف".

 

ويضيف متحسراً، هذه الزراعات التي تُنتهك الآن أمام أعين أصحابها، وأمام صمت العالم من قبل تلك الفصائل بقوانين خارجة عن القيم الأخلاقية والإنسانية، عبر نهب المواسم بأتاواتٍ وبمصادرتها وتمزيق سندات الملكية الأصلية للأرض وإصدار مزورةٍ غيرها.

 

يصمت لثوانٍ متأملاً أشرطته مستكملاً حديثه "حاولت اختزال كل ما في حلب وعفرين بالصورة التي تتحدث الكثير عن جمال وحقيقة بلدي".

 

يعتني عبدين بالأشرطة كما يعتني بأولاده حسب وصفه، مبعداً إياها عن الرطوبة ومشغّلاً لها كل فترة، بالإضافة لتبديل العلبة التي تحتوي كل شريط، يعلّق على ذلك بقوله "وجودي يكمن في هذا الأرشيف، أنا موجود، أنا أرشيف".

 

غادر عبدين وعائلته مدينة عفرين في مطلع عام 2018 بسبب الاحتلال التركي للمدينة، واستقر في إحدى قرى ريف حلب الشمالي، وعيناه تترقبان العودة إلى مدينته نزولاً من جبل الأحلام.

 

يقول "تركتُ بيتي وما فيه إلّا كنزي الثمين وهو أرشيفي، فالأرشيف لا يُباع ولا يُشترى، وهو أغلى ما أملك".

 

فأرشيفه ذاكرةٌ حيّةٌ عن هوية المنطقة وتاريخها وإرثها الغني بتنوّع ثقافة سكانها الذي تحاول تركيا بقواتها وتابعيها محوه، بتدمير الكثير من معالمها وتغييرها إلى جانب تغيير سمات أهلها وثقافتهم وإرثهم.
 

وفي نهاية حديثه يختتم بقوله "التصوير بالنسبة لي سعادةٌ خالصةٌ".