تتجاور أربع قوميات في أربع دول: العرب والترك والفرس والكرد في ايران وتركيا والعراق وسوريا. خلال قرن من الزمن، أو ما يقرب من القرن، على نشوء هذه الدول الأربع كان هناك علاقة تناحرية بين الفرس والكرد في إيران تجسدت في جمهورية مهاباد الكردية بالأربعينيات وفي ثورة 1979 بكردستان إيران ضد الخميني، ومثيل لهذه العلاقة التناحرية بين الأتراك والكرد في تركيا من خلال ثورة الشيخ سعيد بيران ضد مصطفى كمال أتاتورك عام 1925 وفي ثورة الجنرال إحسان نوري باشا 1927-1930 في منطقة آرارات وفي ثورة منطقة ديرسيم عام 1937 ثم في الثورة المسلحة التي يخوضها حزب العمال الكردستاني في كردستان تركيا منذ يوم 15 آب 1984.
في العراق كانت العلاقة تمازجية بين العرب والكرد منذ نشوء الدولة العراقية عام 1921 ثم بدأ الصدام مع ثورة أيلول 1961 التي قادها الملا مصطفى البرزاني ضد حكم عبد الكريم قاسم والتي هدأت باتفاق 11 آذار 1970 ثم عادت عام 1974 قبل أن يتم تسكينها باتفاق الجزائر بآذار 1975 بين شاه إيران وصدام حسين، ولتعود بانتفاضة آذار 1991 بكردستان العراق قبل أن يتم التزاوج القلق بين عرب وكرد العراق عبر دستور 2004 والمشاركة بالسلطة. في سوريا كانت العلاقة بين العرب والكرد أفضل من الدول الثلاث المذكورة حيث وجد رؤساء جمهورية من الكرد، مثل حسني الزعيم وأديب الشيشكلي، ورؤساء وزراء مثل حسني البرازي ومحسن البرازي ومحمود الأيوبي، ووجد زعماء سياسيون كبار، مثل خالد بكداش، وشخصيات دينية كبرى مثل الشيخين أحمد كفتارو ومحمد سعيد رمضان البوطي.
على الأرجح، هنا، أن طبيعة القوميتين الفارسية والتركية هي التي قادت للعلاقة التناحرية مع الكرد في إيران وتركيا، حيث توجد بالبلدين قوميتان هما أقرب للقومية العرقية – السلالية، فيما عند العرب القومية هي هوية ثقافية – حضارية ارتبطت بالإسلام، الذي كان رحم العروبة رغم كون الإسلام هو دعوة أممية وليست قومية، ولم ترتبط العروبة كقومية بالعرق أو الدم والسلالة، ويمكن لتعريف الجاحظ، وهو غير عربي من حيث الأصل الدموي، أن يكون هو الأقرب لتعريف العربي: “العربي هو من كان عربي الهوى واللسان”، لهذا نجد أناس من أصول عربية قحة، مثل سعيد عقل وهو من قبيلة عربية يمانية سكنت في منطقة زحلة بلبنان، لا يعتبر نفسه عربياً بل فينيقياً.
فيما نجد أناساً من أصول غير عربية، مثل ساطع الحصري وهو أحد مؤسسي الاتجاه القومي العروبي الحديث ولم يكن يتقن العربية جيداً، يعتبر نفسه عربياً، وكان هناك الكثير من الشخصيات من أصول غير عربية انتسبوا لاتجاهات قومية عروبية بالقرن العشرين.
لا نجد هذه الحالة عند شخص هو مؤسس للقومية التركية الحديثة مثل مصطفى كمال أتاتورك، ولا عند الاتجاه القومي التركي الطوراني الذي يمد القومية التركية لحدود عالم تركي يمتد من بحر إيجة حتى تركستان الصينية بخلاف أتاتورك الذي يحصر القومية التركية في حدود تركيا، حيث عند كلاهما القومية ذات طابع دموي سلالي- عرقي، وهو الحال أيضاً عند القوميين الفرس.
فيما العروبة عند العروبيين تختلط بالإسلام، وتذوب فيه، وهو ما حصل بعد سقوط الدولة الأموية التي كانت دولة “عربية” فيما الدولة العباسية هي دولة إسلامية أممية، وهذا ما ينطبق على الدولة العثمانية، ولم تنشأ العروبة الحديثة إلا بعد الطلاق التركي- العربي الذي جسده حكم حزب الاتحاد والترقي بين عامي 1908 و1918 ثم مع جمهورية أتاتورك التركية في عام 1923.
لا ينفي هذا أنه كانت هناك حالات من القومية الشوفينية عند عرب، مثل صدام حسين، ولكنه حتى وهو يضطهد الكرد، كان لا ينطلق من نفي قوميتهم كما فعل أتاتورك، فهو الذي وقع اتفاق 11 آذار 1970 مع الملا البرزاني الذي يقول بالحكم الذاتي لكردستان العراق، بل كان صدامه معهم أقرب للصدام المسلح بين سلطة ومعارضة مسلحة، وحتى بعد انتفاضة آذار 1991 جاء مسعود البرزاني وجلال الطالباني لبغداد وتفاوضا معه مطولاً، وهو الذي استنجد به مسعود ضد جلال في آب 1996 بأربيل، فيما حال الشيخ سعيد بيران مع أتاتورك، والقاضي محمد مع شاه ايران في مهاباد وعبدالرحمن قاسملو مع السلطة الإسلامية الإيرانية، كان مختلفاً حيث لا يوجد حل وسط.
إذا ابتعدنا عن طبيعة القوميات، فإن هناك تلاقي للمصالح بين العرب والكرد، حيث كلاهما في حالة استهداف من قبل نزعتين توسعيتين فارسية وتركية، تأخذ عند الفرس اتجاهاً للهيمنة على دول عربية عدة وتتبيع سلطاتها لإيران عبر استغلال وتحريك حركات إسلامية شيعية تصل أو تهيمن على السلطات في بلدان عربية معينة، مثل العراق واليمن ولبنان، فيما عند الأتراك هناك اتجاهات للسيطرة على “خطوط حدودية أمنية” في سوريا والعراق مع اتجاهات عند حزب أردوغان، يعبر عنها بعض مسؤوليه، نحو نفض اليد من معاهدة لوزان بعد انقضاء مئة عام على التوقيع عليها في 24 تموز 1923 وهي المعاهدة التي أقيمت الدولة التركية الحديثة عليها وتم فيها الاعتراف والإقرار بالحدود القائمة مع الدول المجاورة لها، وهو ما يوحي بأن هذه الخطوط الأمنية التركية الحدودية ستكون مثل خط إقليم دونباس الذي أقامه بوتين في أوكرانيا بعام 2014 ثم قام بضمه لروسيا في 30 أيلول 2022.
هذا التلاقي للمصالح بين العرب والكرد، وهو تلاقي سيتم تشجيعه في القاهرة والرياض وواشنطن وفي بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي فيما موسكو بالضفة الأخرى، هو ناتج عن أن صعود القوتين الإيرانية، بعد غزو واحتلال أميركا للعراق وتمدد طهران عبر البوابة البغدادية لعموم إقليم الشرق الأوسط، والتركية، بعد اعتماد واشنطن على ظاهرة أردوغان إثر ضربة 11 سبتمبر 2001 كمحاولة لاستخدام تلاميذ حسن البنا ضد أسامة بن لادن، سيكون على حساب العرب والكرد، ولكليهما مصلحة في وقف وإنهاء التمددين الإيراني والتركي في المنطقة سواء أخذ هذا أو ذاك شكل هيمنة أو شكل نزعة توسعية.
يمكن أن يساعد على ذلك، أن الحزبين الكبيرين في كردستان العراق، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، يريا المستقبل في بغداد عاصمة العراق الجديد وليس في أربيل والسليمانية، وأن القوة الأساسية عند الكرد السوريين، أي حزب الاتحاد الديمقراطي- pyd، ترى مستقبل سوريا ليس عبر الانفصال الجغرافي بل عبر “سوريا ديمقراطية” ضمن حدودها القائمة.