خيارات الهجوم التركي على شمالي سوريا!

أثارت التصريحات التركية عن عملية عسكرية في شمالي سوريا عقب العملية “الإرهابية” التي طالت شارع الاستقلال في منطقة تقسيم بالعاصمة الاقتصادية إسطنبول, سيلاً من المواقف المحلية والخارجية المتضاربة, وأعادت خلط الأوراق المعقدة والمتشابكة أصلاً, وأحدثت لغطاً كبيراً في منطقة تتصف أصلاً بعدم الاستقرار, فاختلط الحابل بالنابل وبات الجميع يترقب ما ستتكشف عنه الأيام القادمة في منطقة سئمت من الحروب وباتت تتطلع لهدوء واستقرار غابا عنها منذ زمن.

في مفردات العملية التركية وبنقاش عقلاني وبعيداً عن أي تموضعات سياسية, وبمقارنة مع العمليات العسكرية التركية السابقة في سوريا, نجد أن صانع القرار السياسي في تركيا يجد نفسه أمام أحد خيارين: إما انتظار الموافقة أو المغامرة.

الخيار الأول بانتظار الحصول على توافقات سياسية وعسكرية من الطرف الروسي إذا ما أرادت تركيا عملية يكون مسرحها مناطق منغ وتل رفعت والقرى المحيطة بها في شمالي حلب, وهذا الأمر لاقى فيتو إيراني_ روسي واضح, فإيران لا تريد أي تماس بين الجيش الوطني التابع لتركيا وبين المدن “الشيعية” نبل والزهراء إذا ما تم إبعاد قوات سوريا الديمقراطية عن تلك المنطقة, والروس قالوا موقفهم عبر رئيس وفد أستانا ألكسندر لافرنتييف، بأنه لا ضوء أخضر لتلك العملية, أو تحتاج أنقرة لموافقة أميركية فرنسية بريطانية إذا ما أرادت عملية عسكرية في شرقي الفرات, أو موافقة كل ما سبق ذكرهم إذا ما أرادت تركيا معركة تكون ساحاتها في منبج أو عين العرب.

وبالتأكيد لاقت أنقرة فيتو من كل الأطراف التي رفضت العملية العسكرية التركية, فالأميركان اعتبروا أي عمل عسكري جديد سيزعزع استقرار منطقة يريدها التحالف الدولي مستقرة, وبنفس الوقت ستؤثر على جهود حرب التحالف على الإرهاب وتخلق بيئة صالحة لعودة تنظيم “داعش”.

الروس بدورهم وقفوا ضد العملية لكنهم مارسوا لعبة شد الحبال مع أنقرة على مبدأ نرفض ولكن, و”لكن” تلك حملت عدة مبادرات روسية لكل من تركيا وقوات سوريا الديمقراطية بلعبة روسية أرادت الاستثمار في الخلاف التركي_ الأميركي, والعداوة التركية مع “قسد”.

بداية عرضت موسكو على أنقرة منحها مناطق منغ وتل رفعت مقابل تنازل أنقرة عن كل مناطق جنوب اوتوستراد (m4), بمعنى سحب النقاط القتالية التركية من حدود إدلب الجنوبية إلى شمال (m4) وتسليم كامل مناطق جبل الزاوية وجبل الأربعين وجبل شحشبو ومدينة أريحا لميليشيات نظام الأسد, لكن تركيا رفضت العرض الروسي لأنه يعرض أمنها للخطر ويزيد من حجم ضغوط اللاجئين على حدودها المتخمة باللاجئين أصلاً.

موسكو طرحت أيضاً على قوات سوريا الديمقراطية انسحاب الأخيرة من منغ وتل رفعت في شمال حلب إلى مناطق الشيخ مقصود داخل حلب بعد نقل الأسلحة الثقيلة والمتوسطة لمناطق شرقي الفرات, وسحب مجلسها العسكري مع كامل أسلحتها من مدينة منبج إلى مناطق شرقي الفرات, أيضاً العرض الروسي لاقى رفضاً من قيادة “قسد”, والعرض الآخر الذي تقدمت به موسكو لقيادة قسد كان عبر انسحابها عن كامل الحدود التركية لمسافة 30 كم مقابل إدخال روسيا لمجموعات قتالية من الفرقة 25 بقيادة العميد سهيل حسن إضافة لقوات من اللواء الثامن في الجنوب يتبع لأحمد العودة، لكن المقترح رُفض من تركيا واعتبرته حلاً شكلياً غير مجدٍ وسيبقى قوات “قسد” بالمنطقة, ورفضته أيضاً قيادة “قسد” باعتبار أن الانسحاب يصيب مشروعها بإقامة الإدارة الذاتية بمقتل إذا ما غادرت مناطق حاضنتها الشعبية وابتعدت عن الحدود التي يقيم فيها جل المكون الكردي السوري.

وبالتالي وأمام صعوبة حصول أنقرة على موافقة واصطدامها بفيتو ثلاثي الأوجه من موسكو وواشنطن وطهران، بتنا أمام تصريحات متعاقبة تجعلنا ننام على توقع بعملية صباحية ونصحو بانتظار إعلان ساعة الصفر.

في الخيار الآخر أمام أنقرة هناك المغامرة بعملية عسكرية تركية بعيداً عن انتظار مواقف خارجية رافضة, وهذا الأمر ممكن عسكرياً, فما تملكه أنقرة من قدرات عسكرية ولوجيستية داخل سوريا وعلى الحدود المشتركة, وهي قادرة وبدعم جوي بسيط من السيطرة على نصف الأراضي السوري على الأقل, لكن ماذا عن المواقف والردود؟؟.

صانع القرار السياسي التركي بالتأكيد عليه الإجابة عن سؤال هام: هل تستطيع تركيا تحمل تبعات قرار حرب منفرد في شمالي سوريا وتحمل نتائجها التي قد تكون كارثية على الاقتصاد التركي والليرة التركية والداخل التركي؟ خاصة في وقت تقترب فيه البلاد من انتخابات وصفها الأتراك بأنها حساسة ومفصلية وخطرة, باعتبار أن الحزب الحاكم لم تعد لديه رفاهية التفوق والحصول المضمون على الأصوات في صندوق الانتخابات, وما حصل في انتخابات بلدية إسطنبول في الانتخابات البلدية السابقة, ورغم إعادة جولة الانتخابات, تم حسمها لصالح منافس حزب العدالة, وأعطت الحادثة صورة شبه واضحة عن تغير مزاج الناخب التركي, وبالتالي سيكون هذا المشهد حاضراً في تفكير صاحب القرار السياسي إذا ما أراد المغامرة بعملية عسكرية تكسر “الفيتو” الثلاثي المفروض عليها.

لكن هذا لا يعني أبداً أن يُفهم أن العلاقات بين أنقرة وموسكو من جهة أو بين أنقرة وواشنطن من جهة أخرى قد وصلت لحائط مسدود وحالة الصدام, على الإطلاق, فالدبلوماسية التركية النشطة بالمرحلة الأخيرة استطاعت خلق أوراق قوة لتركيا خاصة بملف التوسط بين الغرب وموسكو بشأن الحرب الروسية على أوكرانيا, وبشأن ملف الحبوب, وقدرة أنقرة على عقد لقاء بين رئيسي الاستخبارات الأميركية والروسية على أراضيها, إضافة لملف قبول السويد وفنلندا بحلف الناتو.

لكن مشكلة أنقرة أنها لم تُدرك أن تلك الأوراق الرابحة وعلى أهميتها لا تُصرف بالبنك السوري وعلى الأراضي السورية نظراً لحساسية الوقت وحساسية الجغرافية وصراع مناطق النفوذ وتعدد وتنوع أهداف الدول المنخرطة بالشأن السوري وعلى الجغرافية السورية, لذلك وجدنا نوعاً من محاولات الشد والجذب من قبل موسكو وواشنطن لأنقرة في محاولة لكسب ودها, فموسكو أرسلت المبعوث الروسي الرئاسي في دمشق إلى أنقرة للقاء قيادتها, وواشنطن اتخذت قراراً غير مألوف عبر تعيين السفير جيمس جيفري مبعوثاً خاصاً رغم كونه من الإدارة الجمهورية وليس من إدارة الرئيس جو بايدن, والسفير جيفري معروف بعلاقته الطيبة مع الأتراك بعكس المبعوث الأميركي بريت ماكغورك، الذي يصفه الأتراك بإعلامهم بعرّاب المشروع الكردي في سوريا.

حاجة تركيا لعمل عسكري في شمالي سوريا تأتي في إطار تحقيق ثلاثة أهداف مجتمعة:

الأول: أن الحرب على حزب العمال الكردستاني ومحاربة المشاريع الانفصالية ودغدغة المشاعر القومية دائماً ما شكلت ورقة انتخابية ناجحة لحزب العدالة والتنمية ورافداً جيداً في صندوق الانتخابات.

الثاني: الحاجة الملحة لتركيا للرد على العملية الإرهابية التي طالت إسطنبول مؤخراً وضربت عصب الأمن التركي وأثرت بالشارع التركي, ووجهت فيها أصابع الاتهام (تركياً) لحزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية, والرئيس أردوغان يريد الاستثمار بهذا التفجير وحصد نتائجه رغم نفي قوات سوريا الديمقراطية أي علاقة لها بالتفجير, بل ذهبت “قسد” لأبعد من ذلك عندما اعتبرت الأمر لعبة استخباراتية تركية تم اختلاقها لإيجاد ذرائع الحرب عليها, بينما أنقرة تجد أن مواثيق الأمم المتحدة والمادة 51 منها، تبيح لها الحرب على حدود دول أخرى غير قادرة على ضبط الإرهاب العابر لأراضيها ويهدد حدود وأمن الدول المجاورة.

الثالث: أن ملف اللاجئين السوريين يشكل ورقة انتخابية هامة حاولت أحزاب المعارضة التركية الاستثمار بها فسحبها الرئيس أردوغان من يدها بعد إعلانه عن مشروع إعادة مليون ونصف لاجئ سوري بشكل طوعي لسوريا, وعودة هؤلاء تحتاج مساحات إضافية وتحتاج ظروفاً اقتصادية مشجعة, وأهمها الحاجة لعملية عسكرية تصل بين الجزر التركية في الشمال السوري, بمعنى وصل مناطق نبع السلام مع منطقة درع الفرات لتأمين سهولة الحركة والتبادل التجاري وغيره.

هناك من سأل لماذا وجهت أنقرة كل اهتماماتها واستثماراتها العسكرية نحو الشمال السوري بدلاً عن الجزر القبرصية واليونانية التي تشغل بال المواطن التركي, والتفسير الوحيد أن أنقرة اليوم لا تريد ساحة اشتباك إضافية مكلفة مع الغرب الداعم القوي لقبرص واليونان, وبنفس الوقت تشعر الدبلوماسية التركية أنها تشكل اليوم القاسم المشترك بين الغرب والشرق, وأن أنقرة أصبحت عاصمة حوار وتلاقي لحل بعض المشاكل الدولية العالقة, بمعنى أن أنقرة لا تريد عودة الخلافات لعلاقاتها الهشة أصلاً مع الغرب, لذلك توجهت للشمال السوري بمحاولة لخلق أرباح تصرف بالداخل التركي وبصندوق الانتخابات تحديداً.

بعد كل التصريحات التركية المتلاحقة عن عملية عسكرية وعن انتظار وشيك لإعلان ساعة الصفر, ستكون هناك نتائجه سلبية على القيادة التركية الحالية وعلى الانتخابات القادمة في حال التراجع عن تلك العملية دون أسباب مقنعة للداخل التركي, خاصة أن المعارضة التركية متحفزة وتنتظر استغلال أي هفوة أو خطأ للرئيس أردوغان وحزبه الحاكم في تلك المرحلة, وعدم اتخاذ قرار الحرب من صانع القرار السياسي في أنقرة رغم إعلان وزير الدفاع التركي خلوصي أكار عن جاهزية قواته, مرده أن أنقرة لا تريد المجازفة والمغامرة في وقت حساس ووضع حساس, وأن الفترة الزمنية القليلة التي تفصلها عن الانتخابات التركية الهامة يجب أن تمر دون أي هزات عسكرية أو سياسية غير محسوبة النتائج بعناية فائقة.

ونُقل عن جهات سياسية أن الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية اهتموا بأحد استطلاعات الرأي للشارع التركي التي أفرزت نتائج تقول إن فوائد أي عملية عسكرية تركية يمكن أن تبقى بذهن الناخب التركي ويستفاد منها في الانتخابات ولمدة أقصاها (45_60) يوماً ومن ثم يتم تناسيها, وبالتالي إذا ما أراد الحزب الحاكم في تركيا القيام بعملية عسكرية توظف نتائجها لصالح صندوق الانتخابات فيجب ألا تفصلها عن موعد إجراء الانتخابات أكثر من تلك المدة, وبالتالي تصبح الفترة الممتدة من شهر آذار/ مارس حتى أيار/ مايو من العام القادم 2023 هي الفترة الذهبية التي يمكن فيها لأنقرة إطلاق عملية عسكرية ذات فائدة, وبنفس الوقت وحتى لو كانت هناك ردود وتبعات وعقوبات على أنقرة من قبل الخارج, فنتائج تلك العقوبات والارتدادات ستظهر بعد انقضاء الانتخابات ولن تكون مؤثرة على الحزب الحاكم.