نحو وحدة وطنية قائمة على التنوع

في سياق التحضير لكتابة مقالة عن الوحدة الوطنية وقعت على مشاركة لي في ندوة عقدت بتاريخ 18/11/2004 إلى جانب نخبة من المفكرين والسياسيين السوريين (معارضين وموالين) حول موضوع “الوحدة الوطنية كأداة أساسية في مواجهة المخاطر”، فإنني أنشرها دون تعديل).

لا يختلف اثنان، وهذا بدا جلياً في مداخلات السادة الذين تحدثوا قبلي، أن سوريا تهددها مخاطر كثيرة، داخلية وخارجية. غير أن هذه المخاطر ما كان لها أن تكون بهذا الوضوح والجدية، والخطورة، لو كان البناء السياسي والاقتصادي لسوريا سليماً معافى. ليس من باب المغالاة أبداً القول بأن الكيان السياسي السوري مهدد في وجوده، وبذلك اتفق مع ما تفضل به الدكتور طيب تيزيني، وليس في وضعه ودوره الجيوسياسي فقط، كما أشار إلى ذلك بعض السادة المتدخلين. وإن البحث العلمي الجاد في الأسباب التي قادت سوريا إلى هذه الوضعية، سوف يقود مباشرة إلى طبيعة النظام السياسي القائم في سوريا على الاستبداد والشمولية، في رعاية سلطة أمنية قاهرة.

في مداخلتي المكتوبة أحاول مقاربة المخارج الممكنة من هذه الوضعية، متقيداً، قدر الإمكان، بالمحاور التي طرحتها ورقة العمل تحت عنوان “الوحدة الوطنية كأداة أساسية في مواجهة المخاطر”.

وإذا كان لا بد من تحديد معيار لمفهوم الوحدة الوطنية، كمدخل للنظر في واقعها الراهن، فإن حد الانتماء لا يكفي، بل لا بد من هوية جامعة تعبر عن هذا الانتماء من خلال وحدة رؤية ومواقف وسلوك السوريين تجاه القضايا التي تواجه البلد، أو المخاطر التي تهدده. وهي هوية تتحقق كقاسم مشترك أعظمي، كمحصلة لجميع القوى المجتمعية وتعبيراتها السياسية، أو المدنية، أو الأهلية.

هذا المفهوم للوحدة الوطنية يضمر في ذاته ضرورة التنوع في أشكال الوجود الاجتماعي، وفي تعبيراتها الفوقية، السياسية، والثقافية، والأيديولوجية. كما أنه يفترض إمكانية الاختلاف في وجهات النظر، تجاه طبيعة القضايا والمخاطر التي تواجه البلد، وفي كيفية التصدي لها. بكلام آخر خطاب الوحدة هو خطاب موجه نحو بنى وقوى مجتمعية مختلفة بالضرورة، لا بد من خلق الظروف المناسبة كي تعبر عن وجودها، ومصالحها بحرية على قدم المساواة، في إطار القانون، ورعاية المؤسسات.

هذا المفهوم للوحدة الوطنية يختلف عن المفهوم الذي عرضه بعض ممثلي السلطة. بالنسبة لهؤلاء يتحدد مفهوم الوحدة الوطنية سلباً بانتفاء الحرب الأهلية، أو الصراعات الداخلية العنيفة. وبالتالي، حسب زعمهم، في ظروف سوريا، ليس هناك من مبرر لطرح هذا المفهوم في الظروف الراهنة، لأنه بلا موضوع. ينسى هؤلاء السادة، أو يتناسوا أن سوريا، حتى من هذه الزاوية للنظر في الوحدة الوطنية، قد عاشت أكثر من مرة في مناخات الصراعات الداخلية الحادة، حدث ذلك في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي، وحدث ذلك أيضاً في منتصف العام الحالي.

إن واقع الوحدة الوطنية في سوريا في الظروف الراهنة يتحدد سلباً، يتجلى ذلك من خلال السلبية المفرطة التي يبديها المواطنون سواء تجاه المخاطر التي تواجه بلدهم، أو في حياتهم الاجتماعية أو السياسية، أو في مجال العمل. يحضرني في هذه المناسبة قول مأثور للإمام علي بن أبي طالب، يفيد كثيراً في توصيف الحالة التي نمر فيها. يقول الإمام علي: “الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن”، فكيف إذا كان الفقر الذي يعاني منه السوريون فقراً مركباً: فقراً مادياً وروحياً، فقراً في أسباب العيش، وفقراً في الحرية، وفقراً في الحياة العامة، وفقراً حتى في الكرامة الشخصية والوطنية.

نعم يشعر كثير من السوريين بالغربة في وطنهم، وهم موحدون في ذلك، موحدون أيضاً في الخوف، موحدون أيضاً تحت مظلة القمع الطاغي، والمعمم، الذي يتعرضون له منذ نحو أربعة عقود من السنين.

لقد نجح الاستبداد إلى حد كبير في القضاء على روح المواطنة والوطنية لدى جماهير الشعب منذ أن قضى على روحهم السياسية، والمواطن لا يكون كذلك إلا بروحه السياسية. ما لدينا مجرد رعايا يكرسون وقتهم للبحث عن أسباب وجودهم البيولوجية ولا يجدونها إلا بشق النفس. لقد ذكر الدكتور إلياس نجمة أن العاملين بأجر كانوا يشكلون في الستينات من القرن الماضي نحو 30% من مجموع قوة العمل، وكانوا يحصلون على 45% من الناتج المحلي الصافي، في حين أصبحوا في العام 2004 يشكلون نحو 60% من قوة العمل، لكنهم لا يحصلون إلا على نحو 20% فقط من الناتج المحلي الصافي.

لقد نجح الاستبداد أيضاً في تهديم منظومة القيم الوطنية، من خلال سياسة الفساد والإفساد التي انتهجها منذ عام 1970. يخطئ من يظن أن الفساد المنتشر في سوريا هو مجرد ظاهرة يمكن أن يوجد مثيل لها في أي بلد، حتى في بعض الدول المتقدمة، بل هو نهج وأسلوب في الإدارة، له منظومته الخلقية والمفاهيمية، وأدواته، وأساليبه.

لقد حاول السيد صابر فلحوط توصيفه بصورة جيدة، عندما تحدث عن واقع القضاء في سوريا. لقد كان شعار هذه السياسة غير المعلن: إن من يتم إفساده تسهل السيطرة عليه. ويجب الاعتراف بأن السلطة قد حققت نجاحات باهرة على هذا الصعيد.

باختصار عندما نبحث عن عناصر القوة والضعف في الوحدة الوطنية، للأسف الشديد، لا نجد سوى عناصر الضعف غالبة ومهيمنة. فنحن موحدون في السلبية واللامبالاة، وموحدون في الغربة عن الوطن، وموحدون في الخوف، وموحدون في الفقر المادي والروحي، وموحدون في الفساد والإفساد. من منا لم يسمع قادة العدو الصهيوني يتبجحون قائلين: إن سوريا من الضعف بحيث لا تستحق أي تنازل. من منا، نحن المشتغلين في الحقل العام، لم يعتصره الألم وهو يسمع قادة العدو يصرحون بأن الجولان صار أكثر أمناً من تل أبيب.

مع ذلك لم نعدم بعد فرص النهوض والخروج من المأزق الذي أوصلنا إليه الاستبداد، وإن لقاءنا اليوم يمكن إدراجه في سياق البحث عن هذه المخارج المحتملة والممكنة. كنت أتمنى أن تكون السلطة هي الجهة الداعية إلى هذا اللقاء، وأن تكون الدعوة موجهة إلى جميع القوى، والأحزاب، والشخصيات الوطنية الفاعلة، سواء في المعارضة، أوفي جبهة السلطة، بصفتها الرسمية، وأن يأخذ لقاؤنا عندئذ صيغة مؤتمر وطني للمصالحة يتم التداول فيه في المأزق الذي أوصلنا إليه الاستبداد، والخروج ببرنامج وطني إنقاذي شامل. هكذا دعوة، وهكذا مؤتمر كانا سيوجهان رسالة قوية جداً لجميع القوى التي تريد الشر لبلدنا سواء أكانت هذه القوى في الداخل، أم في الخارج، هذا من جهة. ومن جهة أخرى كانا سيشكلان رافعة استنهاض قوية جداً لجماهير الشعب، تخرجها من سلبيتها وغربتها إلى حقل العمل العام النشيط والفعال.

إن إصدار عفو شامل عن جميع سجناء الرأي، وإغلاق ملف السجن السياسي نهائياً وإلى الأبد، ورد المظالم إلى أهلها، إجراء ضروري من ناحيتين: من جهة يعيد الحقوق إلى أهلها، ومن جهة ثانية يكسب السلطة بعضاً من المصداقية في نظر الشعب.

وفي خطوة موازية تالية، لا بد من إلغاء جميع القوانين الاستثنائية المخالفة للدستور، أو تعديلها لتتوافق معه، ومنها إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وما بني عليها من إجراءات وأحكام ومحاكم.

وفي خطوة موازية ثالثة، إفساح المجال لحياة طبيعية مدنية وأهلية وسياسية في البلد، وتنظيمها بقوانين عصرية للأحزاب، وللنقابات، وللجمعيات الأهلية وغير الحكومية وتنفيذها.

وفي خطوة موازية رابعة لا بد من تحرير الإعلام والثقافة، والشؤون الدينية، وتعديل قانون المطبوعات، والنظر في إلغاء وزارة الإعلام، ووزارة الثقافة، ووزارة الأوقاف، والاستعاضة عنهما بمجلس وطني للإعلام والثقافة، ومجلس وطني للشؤون الدينية، وميثاق شرف إعلامي ثقافي، وديني.

وفي خطوة خامسة موازية البدء بتحول تدريجي، آمن، من النظام الأمني الشمولي إلى النظام الديمقراطي، بدءاً بتعديل الدستور، والشروع بتعميم الحياة الديمقراطية في النقابات، والأحزاب، والمنظمات الأهلية، وفي غيرها من أشكال الوجود الاجتماعي، بحيث يمكن الوصول في مدى زمني منظور إلى إمكانية تبادل السلطة عبر صناديق الاقتراع.

وفي خطوة سادسة موازية لا بد من إصلاح الاقتصاد، وتحويله من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد ربحي، ويكون ذلك من خلال خلق بيئة ملائمة للاستثمار، وإصلاح القطاع العام في ضوء معايير السوق، واقتصاره على المجالات الاستراتيجية، أو البنية التحتية، أو تلك التي تطلب استثمارات كبيرة، ليس بمقدور القطاع الخاص تأمينها.

وفي خطوات أخرى موازية كثيرة لا بد من إصلاح الإدارة، والقضاء، والتعليم بمختلف مستوياته، وتحسين الواقع المعاشي للناس. باختصار لا بد من برنامج وطني شامل للإصلاح، تشارك في إعداده وتنفيذه جميع القوى الوطنية والديمقراطية في البلد. بغير ذلك نسير حثيثاً نحو مزيد من التأزم وربما الانفجار.

“الزمن كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، فكيف إذا كان هذا الزمن العالمي، وكذلك هذا الزمن في منطقتنا يتغيران بوتائر سريعة جداً. بمعنى آخر إن لم نسارع لملاقاة التغيرات العالمية، وحجز موقع لنا في العالم المعاصر، في ضوء مصالحنا الوطنية، فسوف نرغم على ذلك. غير أن الثمن عندئذ قد يكون باهظاً، ندفعه من وجودنا، ومن دورنا، ومن مصالحنا الوطنية.

لقد حاولت في مداخلتي التركيز على ما هو مطلوب القيام به في العمق، مع إدراكي أن ما تم إنجازه خلال السنوات الأربع الماضية من عمر العهد الجديد، على السطح مهم أيضاً، رغم عدم كفايته، وعدم اتساقه أيضاً، وقد فصل القول فيه بعض المتدخلين من البعثيين. في الختام أشدد القول بأن المخاطر القادمة عظيمة ينبغي علينا العمل لدرئها والحؤول دونها. في هذا الإطار أثمن المقترح القاضي بتحويل هذه الندوة إلى ندوة دورية للحوار الوطني، وأن تشكل لجنة وطنية للدعوة إليها وتنظيمها.