المواقع الثقافية المنقرضة في سوريا

دمشق – نورث برس

بعد اختفاء الصحافة الورقية إثر جائحة كوفيد 19، يلاحظ بشكل واضح اختفاء الصحافة الورقية، المتخصصة بالمجال الثقافي، إضافة إلى تراجع عام في الصحافة الورقية بالمجمل، بمقابل صعود ناري للمواقع الالكترونية المستندة إلى وسائل التواصل الاجتماعي وما يدرج تسميته بالمنصات، مع أن مصطلح منصة هو مصطلح يشيع خطأ.

فالمنصة مفهوم تقني متنامي وليس مجرد موقع محجوز على سيرفر عادي، أو مستضاف على منصة موقع تواصل اجتماعي، وهذا حديث يحتاج الالتفات إليه لا سيَّما في سوريا والمنطقة.

ولكن ما نود التوسع فيه هو حالة اختفاء المواقع الثقافية، مقارنة بانتشارها أواسط العقد الأول من الألفية الجديدة، حيث كانت المواقع الإلكترونية في سوريا تنتشر بسرعة، ويجد الموقع الثقافي مكانته فيها.

وهنا برزت أسماء ثقافية بعضها ما زال موجوداً على الساحة وبعضها انقطعت أخباره، ساحة ثقافية بُنيت بعيداً عن المنابر الرسميَّة، والأقنية التلفزيونيَّة، يقول فيها المثقفون وجهات نظرهم وقصائدهم وقصصهم ونقدهم الأكاديمي أو الانطباعي دون مقاربات لإرضاء جهة أو شخصية أو مسؤول ما.

هذه المواقع كانت تضيء لنا في مرحلة التبلُّل بالثقافة لجة البحر التي قرر المثقفون بها الغوص، بينما كانت دروب الصحافة الورقية، السيدة حينها، بعيدة المنال وصعبة على شبان جدد لم يمتلكوا نصيَّة الهدف أو المشروع الذي يحلمون به، وحقيقةً هم لم يمتلكوا سوى أحلامهم التي بدأت تغزو شبكة الإنترنت لتجعل هذه الشبكة أوسع وأجمل وتزيد من قيمة المحتوى الثقافي على الإنترنت، هذا الهدف الذي كان يضج في الرؤوس حينها، إبان انتشار الإنترنت ولغته الخاصة في العالم أجمع.

مواقع ثقافية غير موجودة

لا يحتاج الأمر الكثير من البحث والتنقيب عن المواقع المتخصصة بالثقافة في سوريا لتكتشف أنها غير موجودة، وإن أردنا التدقيق أكثر، يمكن أن نتعرف إلى تراخيص المواقع الإلكترونية في وزارة الإعلام السورية لنجد انعدام وجود موقع ثقافي مختص، سوى (موقع اتحاد الكتاب العرب) وبعض الأسماء التي رخصت سابقاً ولم تنطلق.

أما كلمة ثقافة في الترخيص، تنضم إلى مصطلح اجتماعي، ومنوع وفني وخدمي، في الحصول على الترخيص، ولكن ينتفي وجود موقع إلكتروني متخصص في الشأن الثقافي، فهل السبب هو انعدام الحالة الثقافية بالكامل؟ وانعدام وجود جمهور مهتم بالشأن الثقافي؟ هذا ما قد يظنه الممول لأي مشروع من هذا النوع، وهذا ما يُدرج الحديث عنه في الأوساط الأخرى خارج الوسط الثقافي، ولكن المشروع الثقافي شأنه شأن أي مشروع آخر في البلاد، له جمهوره وله ربحيته وله متابعوه في كل أنحاء العالم حين يعرف أهدافه ويحدد جمهوره.

يستعيض الكثير من المهتمين بالشأن الثقافي عن الترخيص لموقع ثقافي بإنشاء صفحة فيسبوك مثلاً، لأسباب أبرزها، أن فكرة الموقع الإلكتروني تحتاج موافقات وإجراءات في الداخل، وربما تمويل كما يتخيلون (علماً أن التمويل لحجز رابط موقع قليل جداً، وهو مبلغ سنوي رمزي حتى ساعة كتابة هذا التقرير).

ولكن إدارة الموقع وترويجه تحتاج فعلاً اهتماماً خاصاً لا يجد الكثيرون من المهتمين هذه القدرة على بذل هذا المجهود، في مرحلة يحاول الجميع أن يلوذ بمنجاة في خضم ما يجري محلياً وعالمياً، كما أن صفحة الفيسبوك التي تنشأ تفاعلية أكثر وتجد لها جاذباً نتيجة السهولة وحالة المتابعة ولكن رغم صعوبة رصد الصفحات الفيسبوكية المتخصصة بالشأن الثقافي للسوريين إلا أنها قليلة ويمكن القول إنها نادرة.

إذن هناك إحجام واضح. فهل المشكلة في العلاقة بين الثقافة والإنترنت؟ أم أن المشكلة بدأت من وسائل الإعلام الكلاسيكية وامتدت إلى وسائل الإعلام المعاصرة، أي المواقع الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي!.

علاقة معقَّدة

لنرقب القنوات التلفزيونية السورية، داخل البلاد وخارجها، الرسمية وشبه الرسمية والخاصة، الموالية والمعارضة، ستجدها جميعاً تخلو من برنامج ثقافي متخصص، إنما ستجد بعض اللمحات الثقافية السريعة والعاجلة، وكأنها رفع عتب، فمن سيتحدث عن كاتب أو شاعر أو تشكيلي أو مسرحي؟ بل الأفضل فقط أن نجد مذيعاً أو مذيعاً يهتم بشؤون الممثلات والممثلين النجوم منهم وغير النجوم بهدف الحصول على رواج ما، يزيد من معدلات الربح والمتابعة لأنها تشبع حاجة الفضول عند الجمهور في اقتحام أسرار الناس والتعرف على ما يحدث داخل بيوتهم أو ربما حتى على أسرّتهم.. وهذا ما يشاع الترويج له أنه رغبة الجمهور كل الجمهور وليس البعض منه.

إذن بدأت المشكلة في العلاقة بين الثقافة والإعلام منذ أمد طويل، حيث بدأ تقليص المساحة للجانب الثقافي في معظم وسائل الإعلام وعلى اعتبار أن الفن جزء من الثقافة، طغى الجانب الفني على الثقافي واستحوذ مساحته إلى أن صار أي محرر يفضل نشر خبر أو مقال فني على نشر تحليل أو قراءة في كتاب لأنه الأكثر انتشاراً بين القراء والمتابعين.

بالإضافة إلى انخفاض الأجر المادي للتحرير الصحفي وكتابة المقال بالعموم، وانعدام التقدير للجهد المبذول في مادة التحليل الثقافي أو القراءة في كتاب، منذ متى مثلاً لم نقرأ مقالاً فيه تحليل نقدي لديوان شعري صدر حديثاً يفكك بنيته ويتعامل معه بروح نقدية مهمة، أليس ما انتشر من رؤى ونجاحات أو إخفاقات من قبل في المجال الثقافي كان ناتجها الاشتغال في الصحافة الثقافية، أليس من سبب اشتهار نزار قباني أو أدونيس هو تناول أعمالهم نقدياً والتجاذبات بين المثقفين أنفسهم على المنابر الثقافية.

ولكن كيف اختفت اليوم كل هذه المنابر، التي لم تعد تحتاج إلى ورق أو أحبار وباتت تكاليفها أقل بكثير ولكن مساحتها تضيق وكأن هناك إشارة واضحة بخنق وتجويع من يشتغلون في المجال الثقافي حتى لا تنبت فكرة شجاعة تقول لا في وجه أية سلطة، والثقافة الحقيقية حسبما يتفق مثقفو الأرض، تتمركز حول لا، على نقيض النعم الخانعة التي نسمعها ونراها في كل مكان اليوم.

التعامل مع المثقف

في بلاد متأخرة تقنياً وعلمياً، يرى المثقفون أن الدواء الشافي للمشكلات المجتمعية هو في تسخير الأوضاع الاقتصادية والسياسية في خدمة الحالة الثقافية في البلاد، وطبعاً هذا مجرد شطط ثقافي في بلاد لا يزال التعامل مع المثقف يكون بالسوط وتكسير الأسنان.

فكيف أن يعطى حقه ودوره الريادي في المجتمع وكيف يمكن أن تكون بوابة الإنترنت منطلقاً له في كسب رزقه وقول كلمته، وكسب الرزق ليس ترفاً يأنفه المثقفون بل يجب أن يكون واحدة من الأولويات التي لا يجب التنازل عنها لا من قبل المثقف ولا من قبل المؤسسات الثقافية إن بقي هناك مؤسسات أصلاً.

أن يبقى مؤشر عدد المواقع الإلكترونية الثقافية يشير إلى صفر، هو إشارة خطيرة، لا يجب تركها مهملة، وخاصة أن أي مشروع ثقافي اليوم يبحث بكل استطاعته عن ممول جريء وشجاع مقتنع بأن القطاع الثقافي أيضاً ربحي وله رواد وكل ما يجب أن يتغير هو آلية التعامل مع الحالة الثقافية وآلية التوزيع والتسويق والإنتاج.

إعداد: أحمد السح