المونديال.. عائلة الكوكب الأرضي

المونديال مشاهير ونجوم، وألعاب ومعجزات، ودهشة ومفاجآت، وهو موعد الكوكب الأرضي لتقديم المتعة والفرح والأمل، وهو صورة الحياة في أشد مظاهرها بهجة وأملاً وإلهاماً، وهو عرس الإخاء الإنساني، يلتقي فيه الناس متنافسين لا متحاربين، ومتسابقين لا مقاتلين، وهو يقوم بنقل الكوكب الأرضي من عالم التطاحن السياسي والحروب الدامية وسباق التسلح إلى عالم التنافس الشريف المفعم بالحيوية والرياضة والأمل، وفي أجواء المفاجآت الرهيبة التي قدمتها الدوحة في أرقى ملاعب العالم بهجة وجمالاً يصبح العرس الكروي صوفية روحانية فريدة لإخاء الإنسان بالإنسان.

هنا يصرخون بحماس، وحتى حين تقفز منهم الحروف العنيفة فهي لا تثير أكثر من الضحكات والدهشات، أسود الأطلسي يفترسون الديوك، نينار يفجر قنبلة مدوية، صاعقة تحطم آمال الأخضر وإعصار يضرب القمصان الزرقاء، الأخضر يقاتلون بالنووي والأحمر يضرب بسواطيره وإلى غير ذلك من العبارات التي يستخدمها الشوالي ومن لف لفه، من محترفي الإثارة، ولكن كل هذه التهديدات لا تثير أكثر من الدهشة، وكل ما يتوقعه الناس من المدافع المدمرة والصواعق المدوية والقنابل النووية هنا هو أن تهتز شباك فريق دون فريق، فيرقص فريق ويحزن فريق، وهذه غاية ما يكون هنا من حروب وقتال.

لا أشك أبداً أن العرس المونديالي هو أكبر مناسبة للإخاء الإنساني وللقاء الإنسان بأخيه الإنسان بعيداً عن ساحات الحروب المدمرة وبعيداً عن أطماع السياسيين المظلمة، هنا في شاطئ من التنافس البريء يلتقي الجميع فيركضون ويمرحون ومع أن كل ممنوح راقص وكل ممنوع ساخط، ولكنهم في النهاية يتقاسمون الأوسمة، ويرددون النشيد الوطني لدول العالم باحترام مهما كان بينهم من حروب وخصام.

هذا على الأقل ما يمكن التماسه من مشاركات كهذه تشارك فيها أمم الأرض جميعاً وتتسابق إليها، وتدرجها في برامجها الوطنية وتعتبر النجاح فيها مؤشراً على حضور الدولة الدولي وحيوية مجتمعاتها وشعوبها.

ولكن ما أصابني بالحيرة هو فريق من المشايخ الذين أمطرونا خلال المونديال بسلسلة فتاوى غاضبة تعتبر الرياضة كلها لوناً من المعصية وتعتبر المونديال مؤامرة صهيونية على الإسلام، وتطالب المسلمين أن يكرسوا فشلهم في التنمية إلى جانب فشلهم في الرياضة، باعتبار أن كل تعاون دولي هو لون من خطط الماسونية العالمية، وبروتوكولات حكماء صهيون!.

والكارثة أن هؤلاء المشايخ ليسوا غمراً من الناس بل هم مشاهير تروج لهم ملايين المتابعات، ويراهم كثير من الناس رمزاً للصلاح والبصيرة، خاصة أنهم يربطون تصوراتهم المتشائمة المعقدة بالوحي، ويملكون تسخير النصوص الدينية في الغايات التي تقتل الإبداع والحيوية، وتحث الإنسان على الخروج من الدنيا وزخارفها فالدنيا ملعونة ملعون ما فيها، وكل لهو أشغل عن ذكر الله فهو ضلال ومؤامرة مع الأصنام!.

في التاريخ الإسلامي كان الرسول الكريم نفسه واعياً بأهمية الرياضة في حياة الناس، وكان يقول علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل، وكان يعقد بنفسه في مسجده الكريم حفلات الرياضة للفرسان الأحباش ويدعو نساءه لمتابعة هذه المونديالات الجميلة، وكان يقوم بنفسه مشجعاً، وذات مرة شهد مباراة رماية فراح يشجع بحماس فريق أرفدة ويقول إرموا بني أرفدة فإن أباكم كان رامياً… الأمر الذي أدى إلى إحباط الفريق الآخر، وقالوا قد دعوت لهم يا رسول فلا أمل لنا بالنصر، فتراجع عن اصطفافه وتذكر أنه قائد الأمة جميعاً وقال: ارموا .. وأنا معكم كلكم.

ولا أشك أبداً أن لو شهد الرسول الكريم هذا المونديال لكان فريقه أكثر فرق الدنيا تدريباً وتفوقاً ونجاحا، ولكان المونديال هو الموسم الذي يتأكد فيه إخاء الإنسان للإنسان، وبناء أسرة واحدة تحت الله.

لا أدري من يستفيد حين نخنق طاقات شبابنا المتوثبة ونحول بينهم وبين الأمل والفرح، ونعيد تكوينهم رهباناً في ركن مظلم من الحياة، بدعوى أن كل نشاط إنساني مؤامرة، وأن أي رياضة لا دليل لها من الكتاب والسنة فهي بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

لقد شهدت بنفسي هذا اللون من الخيبة فقد كنت من أكثر الأطفال إعجاباً بالرياضة العالمية وكنت أتابع نجومها باهتمام ولا يفوتني منها شيء، وكنت أعرف فريقنا الوطني تماماً كما أسمعهم من عدنان بوظو  حارس الشرطة شاهر سيف وحارس الجيش جورج مختار والرباعي الدفاعي محمود طوغلي وإبراهيم محلمي ورضا أصفهاني وهيثم برجكلي وخط الوسط رضوان سرور وسمير سعيد وطارق علوش أما الهجوم فكان لعبد الغني طاطيش ونبيل نانو وجوزيف شهرستان.

أما العالم فكان عندي هو بيليه وبكنباور ومولر وزيكو وكرويف وياشين.

في الصف السادس التزمت بحلقة كريمة للتعليم الديني وفوجئت بموقف سلبي بالغ ضد المباريات بوصفها ملهاة عن ذكر الله، وأن اللاعبين تفوتهم الصلوات في الملاعب، وأنهم لا يلتزمون حدود العورة من السرة إلى الركبة. وبالفعل انقطعت صلتي بالرياضة وانخرطت في العلوم الشرعية واكتفينا بالرياضات التي تنظمها الحلقة خاصة في مسبح الخيارة، ولم يعد بوسعي أن أنظر إلى لاعب كرة. وكنت أغض الطرف عنهم إذا صادف وجودي أمام شاشة تلفزيون. وأذكر تماماً كيف عاتبني علي برو رحمه الله، وقال لي “يا محمد ليه عم تدير وجهك.. يا أخي كل لاعب عنده شعر بتنكش اسنانك فيه!!! من شو خايف؟؟؟؟ تنفتن؟؟؟ قلت له بكل جدية: أنا أنفذ تعاليم الله .. وكفى!”.

استغرق ذلك ثماني سنين حتى بدأت أقرأ خارج الصندوق، واكتشفت أن تابو التحريم هو شرط المشايخ وليس شرع الله.

هي تجربة حزينة.. والأشد حزناً أن الطفولة لا تزال تنسحق في طواحين التشدد، وأن الروح الهائلة التي تحققها الرياضة في روحها الجماعية وإيقاعها الجميل وتدافعها النبيل، تعامل بريبة وشكوك، على منطق: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله، ومن السهل أن يقتنع الصغير والكبير بأنها مؤامرات عالمية لسرقة أموالنا وأوقاتنا وديننا، وأن كرة القدم خطة ماسونية لتخدير الشعوب.

افتحوا لأطفالكم روح الحياة….

مؤلم أن نتآمر على روح الحياة بفأس التشدد، مؤلم أن لا نرى في هذا الإبداع الإعجازي والحشد العالمي روح الله ومشروعه العظيم في الإخاء الإنساني.

إذا كان هذا المونديال يقول شيئاً فهو: العالم أسرة واحدة.