عن جذر “فلكلور الحروب” التركي

حسب المعلومات التي تُصدرها وزارة الدفاع التركية، فإن العملية العسكرية التي أطلقها الجيش التركي في شمال شرقي سوريا وإقليم كردستان العراق خلال الأيام الماضية “المخلب ـ السيف”، إنما تتوخى السيطرة على مساحات واسعة من إقليم هذه المناطق، ونشر عشرات القواعد العسكرية وآلاف المقاتلين الاختصاصيين من قوات الكوماندوس الأتراك فيها، خصوصاً المناطق الجبلية في أقصى شمال العراق، لملاحقة مُقاتلي حزب العُمال الكردستاني PKK، وأن تمتد تلك العملية مستقبلاً إلى عمق الأراضي العراقية في منطقة سنجار، في المنطقة ذات الأغلبية الإيزيدية، الأمر نفسه يتعلق بكامل الشريط الحدودي السوري/التركي، وبعمق 30 كيلومتراً، أي في مساحة تتجاوز سبعة أضعاف مساحة دولة مثل لبنان، وفي جغرافية شديدة الوعورة.

للمراقب خارجي أن يظن بأن تلك العمليات العسكرية يُمكن لها أن تُصفي القوة المسلحة لحزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية في أقرب وقت، وتالياً أن تُصفي وتفكك المسألة الكردية، داخل تركيا وكامل المنطقة، وتالياً أن تخرجها من الحسابات، حسب الدعاية الداخلية التركية.

فثاني جيش في حلف الناتو يلاحق ما يقل عن بضعة آلاف من المقاتلين. لكن المعلومات التفصيلية تقول بأن العملية الراهنة هي نفسها العملية العسكرية التي أطلقها الجيش التركي قبل أربعة أشهر “عملية مخلب النسر”، والتي كانت قد حددت وزارة الدفاع التركية نفس الأهداف التي حددتها للعملية الحالية؛ لكنها فشلت تماماً، وأودت بحياة اثني عشر جندياً تركياً، أعلنت وزارة الدفاع التركية على أثرها إنهاء العملية.

لكن الأكثر دقة ودلالة، هي الرؤية الكلية، التي تقول بأن وزارة الدفاع التركية تخوض مثل تلك العمليات منذ العام 1991، أي منذ ثلاثة عقود كاملة، تخوض عمليات عسكرية برية وجوية ضد المقاتلين الكرد، وتعد بإنهاء فاعليتهم بأقرب وقت، دون أن تحقق أي شيء، بالرغم من تدميرها لأكثر من أربعة آلاف قرية كردية، ومقتل قرابة خمسين ألف عسكري مدني خلال تلك العمليات، كردي وتركي، لكن دون أن تنطفأ جذوة تلك الحرب، التي يخوضها المتمردون الكرد منذ عقود، للمطالبة بالاعتراف السياسي بأبناء القومية الكردية داخل تركيا، الذين تصل أعدادهم لقرابة عشرين مليون كردي. وأولاً دون أن تقدم تفسيراً منطقياً، لنفسها وللمواطنين الأتراك ولكل العالم، تفسيراً للأسباب التي تجعل الآلاف من الشبان والشابات الكُرد يلتحقون بهذا التنظيم المسلح، ليعيشوا سنوات طويلة في ظروف معيشية شديدة القسوة، في سبيل مطالبهم السياسية، تفسيراً يستطيع توضيح التراجيديا والقسوة وأشكال القهر والقسر التي تواجههم في حياتهم اليومية والعامة داخل تركيا، حتى يندرجوا في مثل هذا الخيار.

في الجذر، فإن السبب الرئيسي لفشل العمليات العسكرية التركية كامن في استحالة حل مسألة سياسية شديدة التركيب مثل المسألة الكردية في تركيا، بأدوات غير سياسية تماماً، هي السطوة والقوة العسكرية، وفقط عبرها.

فالمنطق البسيط يقول بأن الظرف السياسي المتمثل بإنكار الوجود السياسي لأبناء القومية الكردية في تركيا، هو الذي أدى لاندلاع الكفاح الكردي المُسلح عام 1984، الذي هو واحد من موجات التمرد الكردي في تركيا، والتي تتالت منذ تأسيس الدولة التركية عام 1923، وليس العكس. وحيث أن تصفية النتيجة المتمثلة بالكفاح المسلح، لن يؤدي إلى حل الجذر، المتمثل بمسألة الإنكار السياسي للوجود الكردي في البلاد.

ثلاثة عوامل رئيسية تساعد بشكل كثيف على تكرار هذا المنطق دورياً في الحياة العامة التركية: فالنزعة القومية في تركيا تكاد أن تكون مطابقة للـ”الوطنية” في البلاد. فمجموع الأحزاب السياسية الرئيسية في تركيا، يسارية ويمينية وإسلامية وقومية، وبالرغم من اختلافاتها النوعية الأخرى، لكنها بمجموعها أحزاب قومية جداً، متمركزة ومُجمعة على الهوية القومية التركية الحادة للدولة ومؤسساتها في البلاد، من التربية إلى الجيش، مروراً بالقضاء والرموز والإعلام.

هذه الهوية القومية المُطلقة للفاعلين السياسيين في تركيا، لم تجترح فضاء وكلاماً سياسياً عمومياً في البلاد، يستطيع أن يناقش المسألة الكردية كقضية سياسية داخلية، تستطيع أن تزاحم سياسياً الحلول العسكرية التي تنفذها الأجهزة التنفيذية في البلاد. فطرح المسألة كقضية سياسية يكاد أن يوازي فعل “الخيانة الوطنية” بالنسبة لمجموع الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية في تركيا.

العامل الآخر يتعلق بطبيعة موقع وهوية الجيش التركي في البلاد، منذ اللحظة التأسيسية للدولة التركية وحتى الآن. فتركيا على العكس من أغلبية دول العام، ليست دولة تملك جيشاً، بل تكاد أن تكون جيشاً يملك دولة بكاملها، كما يقال في الأدبيات السياسية. فالجيش التركي الذي خاض أربعة انقلابات رسمية في البلاد، ويُعد فاعلاً رئيسياً في رسم ملامح الهوية السياسية والخيار الاستراتيجي في البلاد، وبالرغم من كل ما يُقال عن تحجيم دوره في الحياة السياسية والعامة في البلاد، إلا أنه ما يزال صاحب القرار الاستراتيجي بالنسبة لقضية محورية مثل المسألة الكردية، ولا تتجرأ أي من القوى السياسية من اتخاذ قرارات جوهرية مخالفة لإرادته. لأن القضية الكردية هذه، وعبر محاولات حلها عسكرياً، هي آخر المنافذ الحيوية التي يطل منها الجيش التركي على الحياة العامة، يقوي من حضوره ودوره وسلطته على المجال العام.

أخيراً، فإن هذه النزعة العسكرية/الإيديولوجية خارج الحدود، إنما متأتية من جذر إمبراطوري استحواذي، ما يزال حياً في الذات الجمعية والحياة السياسية التركية حتى الآن. ذلك الجذر الذي يندفع كل مرة لأن يستسهل العمليات العسكرية وأشكال الاحتلال خارج الحدود، لمراضاة ذلك الفلكلور الحربي التركي في الذاكرة الجمعية، كشفاء لرضوضها العميقة. فالإمبراطورية ذوت منذ أكثر من قرن، وصار وريثها مجرد دولة عادية، تستجدي دولاً بحجم ملعب لكرة القدم. لكن الحاضر لا يريد الاعتراف بهذه الحقيقة البديهية، فيعوضها بهجمات وحروب من مثل هذه.

ربما توقع العملية العسكرية التركي الأخيرة هذه عدداً كبيراً من الضحايا، بما في ذلك موجات نزوح جماعية، كما هو متوقع، لكنها بالتأكيد لن تأتي على نهاية المسألة الكردية في تركيا، التي هي مسألة سياسية بجوهرها، كثيفة الحضور اليومي، ولا يمكن لعقل قديم أي يفرز أي حلٍ لها.