أميركا والكرد.. امتحان العلاقة

أعاد العدوان التركي المستمر على مناطق شمال شرقي سوريا العلاقة الأميركية – الكردية إلى دائرة الجدل، ومع هذا الجدل طرح تساؤلات كثيرة، منها هل هناك تحالف أميركي – كردي بالفعل؟ وإذا كان موجوداً فأين هذا التحالف من التحالف التاريخي بين الولايات المتحدة وتركيا؟ وهل التحالف الأميركي- الكردي ينطلق من اعتبار الولايات المتحدة القضية الكردية قضية سياسية تتعلق بشعب محروم من حقوقه القومية والوطنية أم أنه يندرج في إطار الأولويات الأمنية الأميركية تجاه المنطقة وأنظمتها ودولها وشعوبها؟

في الواقع، منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى تاريخ حرب الخليج الأولى عام 1991، لم تكن علاقات أميركا بالحركة الكردية علاقة سياسية علنية كما هي الحال الآن مع كرد العراق ومؤخراً كرد سوريا، بل كانت العلاقة أمنية سرية وتحديداً مع كرد العراق، حيث نظرت الولايات المتحدة إلى الكرد على أنهم عامل بشري أمني مهم في منطقة استراتيجية مهمة تتجاذبها التيارات القومية والدينية والمصالح النفطية والاقتصادية، أي أن جوهر السياسة الأميركية تجاه الكرد قامت على اعتبار القضية الكردية أولوية أمنية يمكن التقرب منها في الظرف المناسب لسياساتها تجاه المنطقة.

وعليه، هناك تجارب ولحظات تاريخية تحولت هذه السياسة إلى انتكاسات عسكرية وسياسية للحركة الكردية، عبرت في الوجدان الكردي عن خيانة أميركا للأماني القومية التي دافع الكرد عنها طويلاً، في حين كان الساسة الأميركيون يقولون مع كل انتكاسة كردية (إنهم كانوا يقومون بواجبهم، وعلى الكرد أن يميزوا بين النشاط الاستخباري والعمل التبشيري)، فعلى الأقل هذا ما قاله وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، رداً على مناشدات البرزاني الأب له عقب الانتكاسة الكردية في عام 1975، ولعل دعوة قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، الرئيس الأميركي، جو بايدن، بعدم السماح لتركيا القيام بهجوم بري ضد مناطق شمال شرقي سوريا، أعاد إلى الأذهان ما قاله كيسنجر للبرزاني الأب قبل نحو نصف قرن، خاصة أن الموقف الأميركي من العدوان التركي حمل مؤشرات غير مفهومة بعد أن تعهدت الإدارة الأميركية بحماية حلفائها المحليين أي قسد من أي تهديد أو عدوان، عقب سنوات من الحرب المشتركة ضد تنظيم داعش الإرهابي وهزيمته في الباغوز، والسؤال هنا، كيف نفهم الموقف الأميركي من العدوان التركي الجاري؟.

في محاولة للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التوقف عند وقائع تتعلق بتطورات الموقف الأميركي إزاء العدوان التركي، ولعل من أهم هذه الوقائع بالتسلسل الزمني:

  1. اللقاء الذي حصل في 14 الشهر الجاري في إسطنبول بين مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وليم بيرنز، ورئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين، وسط حديث عن لقاءات بين الرجلين ورئيس الاستخبارات التركية حقي فيدان، حيث لم يتسرب أي شيء عن هذه اللقاءات أو المواضيع التي بحثت.    

2 – اللقاء المفاجئ على هامش قمة مجموعة العشرين في بالي الاندونيسية بين بايدن وأردوغان منتصف الشهر الجاري، وهو لقاء لم يكن مقرراً بينهما، لكن اللافت هو تصعيد أردوغان لهجته بعد هذا اللقاء بشكل غير مسبوق ضد شمال شرقي سوريا.         

  • بيان القنصلية الأميركية في أربيل بعد ذلك بيومين، حيث دعا البيان الرعايا الأميركيين إلى عدم زيارة مناطق شمال شرقي سوريا وإقليم كردستان العراق، رابطاً ذلك بعملية عسكرية تركية محتملة. وهو البيان الذي أثار الكثير من الشبهات حول الموقف الأميركي وإذا ما كانت واشنطن على علم مسبق بالعملية العسكرية التركية وتنسيق بشأنها. 

4 – الموقف الأميركي الخجول من الاستهداف التركي لرموز ومنشآت ومقار كانت تعهدت الإدارة الأميركية بحمايتها، مثل منشآت النفط والغاز، ومقار التحالف الدولي، والسجون التي تأوي الدواعش، فضلاً عن ذهاب الطيران التركي في قصفها لمسافات بعيدة هي ضمن الحماية الجوية الأميركية.

5- اللقاء الذي جرى قبل أيام قليلة بين السفير الأميركي في أنقرة جيف فليك، ووزير الدفاع التركي خلوصي أكار في مقر الوزارة، وهو لقاء غريب بروتوكولياً لطالما أن عمل السفراء هو مع وزارات الخارجية، وقد تسرب أن اللقاء بينهما تناول شروط تركيا لوقف عمليتها العسكرية.   

6- جملة التصريحات الأميركية الضبابية التي خرجت من البنتاغون ووزارة الخارجية والبيت الأبيض، إذ بدت هذه التصريحات في البداية وكأنها متفهمة للعدوان التركي، وتحاول مسك العصا من المنتصف بدعوة تركيا إلى عدم القيام بعملية عسكرية مقابل الحديث عن تفهم مخاوف ما يسمى بالأمن القومي لتركيا، قبل أن يتطور الموقف الأميركي إلى رفض للعملية التركية، وتوجيه رسائل أقوى لأنقرة، مؤكدة أنها تهدد أمن جنودها، والحرب ضد داعش، والاستقرار في شمال شرقي سوريا.

من دون شك، جملة هذه المعطيات والمواقف والتصريحات الأميركية، هزت من ثقة الكرد (بالحليف) الأميركي، وعززت من مخاوفهم الوجودية، خاصة أنهم يعيشون في محيط إقليمي يفتقر إلى الثقة والإيجابية ويطمحون إلى نوع من الحماية الدولية في ظل مخاوفهم الدفينة من دول إقليمية كبرى كتركيا وإيران، حيث يتزامن الهجوم التركي مع قصف إيراني متقطع لإقليم كردستان العراق، وسط حديث عن حشود إيرانية لاجتياح الإقليم إذ لم يستجيب الأخير والحكومة المركزية في بغداد لشروط إيران بخصوص الحركات الكردية الإيرانية التي لجأت إلى الإقليم، حيث لا يختلف الموقف الأميركي من التهديد الإيراني للإقليم عن العدوان التركي على مناطق شمال شرقي سوريا، وهو ما يجعل الحديث عن تحالف أميركي – كردي يفتقر إلى الدقة، رغم أن الكرد باتوا لاعباً إقليمياً مهماً في المنطقة وقضاياها، خاصة أن إقليم كردستان العراق تحول إلى وضع أشبه دولة.                                                                               

في أحيان كثيرة، تبدو العلاقة الكردية ـ الأميركية خاضعة لشكل الحدث نفسه، وعلاقته بالدول المعنية بالقضية الكردية على شكل دورة الأقدار والمصالح، لاسيما مع تركيا التي تحتل مكانة مهمة في الاستراتيجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد ازدادت هذه الأهمية مع الحرب الروسية – الأوكرانية الجارية رغم كل اللاءات التي يرفعها أردوغان في وجه الإدارة الأميركية، وذهابه بعيداً في التغريد خارج سياسات واشنطن وحلف الأطلسي، ولعل انتقائية الإدارة الأميركية في التعامل مع قضايا الكرد في المنطقة، تؤكد منطق الأولويات الأمنية والمصالح الثنائية مع دول المنطقة، وعليه تأتي القراءة الأميركية للحدث الكردي مجتزئةً ومنقوصة، ولعل ما يؤكد ما سبق هو أن واشنطن ركزت خلال العقود الأخيرة على معاناة كرد إقليم كردستان العراق مقابل تجاهل تام لمعاناة كرد تركيا، بل كثيراً ما أعطت واشنطن صور متناقضة في هذا السياق، ففي حالة كرد العراق أظهرت المطالب الكردية في إطار قيم الديمقراطية فيما في حالة كرد تركيا كثيراً ما اقترنت بالإرهاب، وفي أفضل الحالات بالتجاهل التام، وهكذا تبدو القراءة الأميركية للقضية الكردية في تطلعاتها متناقضة، كما أن كل ما سبق لا يعني أن الكرد رغم تجربتهم الطويلة نسبياً مع الإدارات الأميركية، يجيدون فهم السياسة الأميركية وقراءتها، فهم إما نظروا إليها بصفتها الأمبريالية والاستعمارية ويجب بالتالي محاربتها، أو جرى التعامل معها كقوة ضاربة في كل زمان ومكان، وبالتالي يمكن الاعتماد عليها، وفي الحالتين كانوا في موقع الضحية، ففي الحالة الأولى تحولول إلى (إرهابيين) كما هو التصنيف الأميركي والغربي عموماً لحزب العمال الكردستاني، وفي الحالة الثانية، تحولو عملاء للإمبريالية والصهيونية، يعملون لتقسيم العراق وسوريا والمنطقة عموماً، كما هو في نظر التيارات القومية والإسلامية العربية، فضلاً عن تركيا وإيران.

الثابت، في هذه اللحظة المصيرية التي تهدد فيها تركيا باجتياح مناطق شمال شرقي سوريا، أن العلاقة الأميركية – الكردية باتت في امتحان صعب، إذ على ذلك سيتوقف مستقبل هذه العلاقة التي قطعت شوطاً كبيراً في السنوات الماضية ليس على صعيد الحرب ضد داعش فحسب، بل على صعيد المصالح الجيوسياسية التي تشكل أهمية كبرى في استراتيجيات الدول المتصارعة على العالم وكيفية إدارته.