تغيرات جديدة في جو العلاقات الدولية

خلال قرنين من الزمن تعاقبت على العلاقات الدولية أربعة أنظمة: نظام مؤتمر فيينا1815 وكان فيه أربعة قوى دولية كبرى هي بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا إثر هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو وقد ساد هذا النظام لقرن كامل حتى انهار عام1914مع نشوب الحرب العالمية الأولى، ثم نظام معاهدة فرساي بعام1919 إثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وكانت فيه قوتان كبيرتان هما بريطانية وفرنسة مع انعزال أميركي، وبعده نظام الثنائية القطبية الأميركية- السوفياتية بعد هزيمة ألمانيا الهتلرية بالحرب العالمية الثانية عام1945، ورابعهم هو نظام الأحادية القطبية الأميركية للعالم الذي بدأ في خريف عام1989مع هزيمة الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة1947-1989.

في كل نظام دولي كانت القوى الكبرى إما تتهادن أو تتعاون أو تتصارع، ولكنها كانت تتفق على بقاء النظام الدولي وفق أسسه المعمول بها ،وكانت تتعاون على منع القوى الجديدة الصاعدة أو التي تقوم من هزيمتها من تهديمه. وقد رأينا هذا في التعاون البريطاني- الروسي على منع الحاكم المصري محمد علي باشا المدعوم فرنسياً من القضاء على الدولة العثمانية بثلاثينيات القرن التاسع عشر، ثم في الحلف الثلاثي البريطاني – الفرنسي- الروسي الذي تشكل في العقد الأول من القرن العشرين لمنع ألمانيا التي لم تعد تقبل في مرحلة ما بعد وحدة 1871 الألمانية بحصة بروسيا في نظام مؤتمر فيينا من أن تهدد أسس النظام الدولي القائم بعد أن كشرت برلين عن نزعة توسعية نحو خارج النطاق الأوروبي فيما كان المستشار الألماني بسمارك (1862-1890) يرى أن دور ألمانيا يجب أن ينحصر في نطاق القارة الأوروبية.

ثم رأينا هذا بعد انسحاب هتلر، عقب أشهر من توليه السلطة بعام 1933 من منظمة عصبة الأمم التي حددت التزامات ألمانية المهزومة وفق معاهدة فرساي بمنع التسلح وتعويضات الحرب للمنتصرين، لما اجتمع البريطانيون والفرنسيون والسوفيات ضده قبل أن يتفرقوا ثلاثتهم أمامه مع مؤتمر ميونيخ عام 1938 لما حاول البريطانيون والفرنسيون اغراء هتلر بالفريسة التشيكوسلوفاكية لتوجيهه شرقاً ضد السوفيات وهو مارد عليه ستالين بعد عام بعقد المعاهدة السوفياتية- الألمانية التي قادت لحرب ألمانيا مع فرنسا وبريطانيا.

في نظام الثنائية القطبية ورغم الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو إلا أن كليهما كانا لا ينظران بارتياح إلى ظاهرات كانت تريد خرق نظام الثنائية القطبية مثل منظمة عدم الانحياز التي تزعمتها مصر عبدالناصر وهند نهرو ويوغسلافيا تيتو ولا إلى ظاهرة الجنرال ديغول الذي أراد الاستقلالية الأوروبية عن البيت الأبيض والكرملين.

بالحالات السابقة المذكورة، كانت التغيرات في مشهد العلاقات الدولية تأتي من مساعدة المتضرر أو المهزوم، الذي أقيم النظام الدولي ضده، لقوة صاعدة متحدية للقوى الكبرى من أجل هزهزة هذا النظام أو تقويضه (فرنسا مع محمد علي باشا- مساعدة هتلر لموسوليني على غزو الحبشة في عام 1936)، أو تأتي من خلال انفكاك حليف لقوة كبرى واتجاهه للتحالف مع قوى جديدة منافسة (تحالف العثمانيين مع الألمان منذ عام 1898 وكسر السلطان عبدالحميد لتقليد التحالف العثماني- البريطاني)، أو تجيء من تعاون قوة كبرى مع قوة صاعدة ضد قوة كبرى منافسة (تقارب ما بعد عام1971بين الأميركان والصينيين ضد السوفيات).

يمكن لما سبق أن يساعد على مقاربة التغيرات الجديدة في مشهد العلاقات الدولية ضمن نظام الأحادية القطبية الأميركية للعالم القائم منذ عام 1989، حيث رأينا كيف كان هذا النظام قوي الأسس إلى درجة لم يستطع أحدُ منع الأميركان من أن يفعلوا مايريدون في حرب 1991 بالخليج وفي حرب كوسوفو 1999 وفي غزو 2003 بالعراق وكيف انجر الجميع(أوسكتوا) وراء واشنطن في فرض عقوبات من مجلس الأمن الدولي على ايران بعد استئنافها لبرنامجها في تخصيب اليورانيوم في شهر آب 2005. وقد كانت هناك قوة أميركية فرضت انضباطاً غير مسبوق في العلاقات الدولية.

تم خرق هذا الانضباط في شهر آب 2008 مع الحرب الروسية على جيورجيا، التي عبرت عن بداية استيقاظ للدب الروسي إثر نوم استغرق عقدين من الزمن بعد هزيمة 1989 وبعد تفكك 1991 للاتحاد السوفياتي، وقد كانت جيورجيا بداية تكشير عن أنياب الدب الروسي ثم التهام أراضي منها وهو   بعام 2014 ثانية في أوكرانيا فيما اتجهت موسكو بعد هذا الاستيقاظ نحو أهداف ثانية منها محاولة  فرض هيمنة روسية على أجزاء من أراضي الاتحاد السوفياتي السابق رأينا محاولاتها ومظاهرها في كازاكستان بداية عام 2022 قبل أن تبلغ ذروتها في الغزو الروسي لأوكرانيا البادئ في يوم 24 شباط 2022. ويلفت النظر هنا ترافق هذا الاستيقاظ الروسي مع بداية الأزمة المالية- الاقتصادية الأميركية في شهر أيلول 2008 ومع ملامح بدأت بالتوضح بفترة 2008-2011 عن فشل المشروع الأميركي في العراق الذي كان يراد منه أميركياً “إعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط “وفق تصريحات معلنة لمسؤولين أميركيين كبار منهم وزير الخارجية كولن باول. أيضاً كان هذا الاستيقاظ الروسي مترافقاً مع وصول الصين بعام 2010 إلى المرتبة الاقتصادية الثانية بالعالم وإعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما عن سياسة أميركية للتركيز على مجابهة الصين بعام 2011 أسميت بسياسة “الانزياح نحو الشرق الأقصى”.

هنا، كل التغيرات بالجو الدولي كانت على وقع مسار علاقة واشنطن مع بكين بفترة ما بعد عام 2011، من تقارب واشنطن مع موسكو في الملف السوري منذ اتفاق 7 أيار 2013 بين وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف وكان هدفه ابعاد الروس عن الصينيين، إلى الاتفاق النووي مع طهران بعام 2015 وكان الهدف الأميركي منه احتواء طويل المدى لإيران بحكم كونها طريق الصين إلى الشرق الأوسط ، بالمقابل كانت هذه التغيرات بالجو الدولي تأتي من ابتعاد موسكو عن واشنطن في فترة ما بعد عام 2016 وهو ما قاد إلى تعاون تركي- روسي في سوريا، كما أن اتجاه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب للتخلي عن الاتفاق النووي مع ايران بعام 2018 قد أفضى إلى تقارب ايراني مع روسيا والصين. بالمقابل فإن اتجاه واشنطن منذ عام 2017 نحو التخلي عن السياسة المتبعة منذ عام 1971نحو التفريق الأميركي بين موسكو وبكين والاتجاه بدلاً من ذلك نحو مجابهتهما معاً قد قاد إلى دفع الصين وروسيا نحو حلف بدأ بالتبلور التدريجي قبل أن يتمظهر في عام 2022 مع الحرب الأوكرانية، وبشكل أصبحت فيه العلاقات الدولية هي علاقات تدور على وقع تجابه بين معسكرين عالميين ،أي تحالف أميركي- بريطاني – أوروبي- ياباني ضد تحالف صيني- روسي.

يمكن هنا القول إن عالم مابعد24 شباط 2022 ليس مثل عالم ما بعد9 تشرين الثاني 1989 عندما قام وولد نظام القطب الواحد الأميركي للعالم، ففي عملية الغزو الروسي لأوكرانيا هناك محاولة انقلاب روسية مدعومة صينياً على نظام القطب الواحد، ولا يعرف حتى الآن بعد تسعة شهور من بدئها إن كانت ناجحة أو فاشلة ،فهذا يحتاج لزمن أطول لتوضح هذا أو ذاك، ولكن يوم 24 شباط 2022 قد أنتج حالة سيولة في العلاقات الدولية بسبب ارتخاء وتهزهز قبضة القطب الأميركي الواحد للعالم على مجمل العلاقات الدولية أنتجت تغيرات جديدة في المشهد الدولي، رأينا أحد مظاهرها في ابتعاد تركي أكثر عن واشنطن، وفي تشدد ايراني أكثر في مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع الأميركان، وفي انزياح سعودي بعيداً عن واشنطن، وفي حرية حركة أصبحت تمتلكها الهند بين واشنطن وموسكو، وفي عودة منطقة الشرق الأوسط إلى  أهميتها كعاصمة للطاقة العالمية من نفط وغاز إثر اتجاه أوروبا للانفطام الطوعي عن الطاقة الروسية، وعموماً فإن كل الدول المتوسطة القوة، مثل تركيا وايران والسعودية ومصر وإثيوبيا ،أو الكبيرة مثل الهند أو التي تقترب من الكبر مثل البرازيل وجنوب ادإفريقيا، رأينا كيف أنها جميعاً قد أصبحت أكثر تأثيراً وقوة في المشهد الدولي لعالم مابعد24 شباط 2022، فيما للمفارقة قد أصبح الأوروبيون واليابانيون والأستراليون والكوريون الجنوبيون أكثر خضوعاً لواشنطن.