العدوان التركي مجدداً

على طريقة لاعب الخفّة المبتدئ أخرجت الحكومة التركية من قبّعتها ما وجدته ذريعة مناسبة لشن عدوان جديد على شمال شرقي سوريا، وبطبيعة الحال بدا الأداء التركي مكشوفاً وخالياً من أي إبهار أو إقناع  للرأيين الدولي والمحلّي. ذلك أن تفجير إسطنبول جاء أقرب إلى عرض ركيك ومثير لسخرية الأتراك أنفسهم الذين يميّزون بدورهم بين أعمال العنف الحقيقية، وبين دسائس الدولة العميقة، أو حتى تستّرها على الجناة الفعليين في حالات سابقة.

 فوق ذلك يمكن تفسير الاستعجال التركي لإطلاق عملية “المخلب_السيف” على أنه تعمية وتجاهل لمسار التحقيقات المتصلة بالخليّة التي تقف وراء هجوم إسطنبول، إذ أن المعلومات حول خلفية منفّذة الهجوم بدأت تتكشّف؛ فالمنفّذة أحلام البشير تنحدر من متن عائلي منخرط في تنظيم “داعش”، ولديها ثلاثة أشقاء حيدوا وهم يقاتلون في صفوف التنظيم، فضلاً عن أنها تزوّجت من ثلاثة عناصر في التنظيم، ما يعني أن كل ما قدّمته الحكومة في شأن الهجوم قد يتحوّل لمثار جدل ومساءلة ومنافسة حزبية وانتخابية، وعليه فإن الذهاب للحرب قد يقي الفريق الحكومي المتورّط أو المتستّر على الهجوم من طوفان الأسئلة والاستفهامات المتّصلة بالحادثة.

على أي حال، لن تعدم الحكومة التركية الذرائع لشن عدوان جديد على شمالي سوريا وكردستان العراق، سواء وقع هجوم في إسطنبول أم لم يقع، وهو ما حصل بالفعل عبر احتكامها في نهاية المطاف للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة واستخدامه على نحو متعسّف، وقد كان من المتوقع أن تجنح تركيا إلى التصعيد بتوافر الذرائع أو انعدامها بالنظر إلى اقتراب موعد الانتخابات الحاسمة في حزيران 2023، وتطلّع التحالف الحاكم إلى رفع القضايا الأمنية إلى مصافي القضايا الأكثر إشغالاً للنقاش العام على حساب الموضوعات الاقتصادية والمعاشية وارتفاع نسب التضخّم.

ومنذ ليل العشرين من هذا الشهر، بدأت تركيا شن هجمات عنيفة على طول المناطق الواقعة جنوب الشريط الحدودي التركي لتطال أكثر من 45 موقعاً، فيما بدا أن بنك الأهداف العدوانية شمل بنى تحتية أساسية، من ذلك مشفى الأطفال في كوباني، وآبار ومحطات نفط ومحروقات، وصوامع حبوب، ومناطق سكنية، ما يشي بأن العدوان يسعى إلى تحطيم الاستقرار النسبي القائم، وترويع المدنيين نتيجة عدم اقتصار القصف الجوّي والمدفعي على النقاط العسكريّة، وإلى نشر صورة دعائية مضلِّلة في الداخل التركي مفادها أن الرد والانتقام التركيين يعبّران عن قوّة الحكومة.

المريب هو ما أقدمت عليه الطائرات الحربية التركية البارحة من استهداف لقوات حماية مخيّم الهول، ما أفضى إلى فوضى داخل المخيم، وتمكن البعض من الفرار، الأمر الذي يرمي إلى تشتيت قوات سوريا الديمقراطية، التي تحاول التركيز على تطويق الاعتداءات ونتائجها، وأما المخيف هو إقدام تركيا على استخدام أسلحة محظورة دولياً، وفق تأكيدات لـ”قسد” عن استخدام “أسلحة كيمياوية” في قرية طاط مراش بريف عفرين.

في المقابل تبدو الاستجابة الأميركية والروسية للمطالبات الرامية إلى إيقاف العدوان ضعيفة للغاية قياساً إلى وحشية الغارات وطبيعة الأهداف، وفي واقع الأمر تسعى روسيا، رغم رفضها للعدوان التركي وشنّ حرب بريّة، إلى مواصلة الضغط على “قسد” لثنيها عن التحالف مع الولايات المتحدة ودفعها إلى أحضان دمشق بلا مقابل، في الوقت الذي يكثر فيه التساؤل حول ما تمّ الاتفاق عليه تحت الطاولة في أستانا، في حين حاولت الولايات المتحدة الجنوح إلى استخدام لغة دبلوماسية خالية من أي مضامين صارمة إزاء الهجمات خصوصاً وأن الشكوك بدأت تتنامى حيال فاعلية الاستراتيجية الأميركية في سوريا التي تزداد غموضاً والتباساً، رغم أن موقفها الرافض لأيّ عملية عسكرية برية يبدو ثابتاً منذ تولّي الديمقراطيين الحكم في واشنطن، وهو موقف لا يشذّ عما تقوله موسكو بطبيعة الحال.

بمعزل عن لغة الضامنَين الضعيفة، فإن الأمر الواضح بجلاء هو سطوع الضوء الأخضر فيما يخصّ الضربات الجوية والقصف المدفعي عبر الحدود، ما يعني أن تركيا تحتكم على رخصة مزاولة القتل والتدمير دون حساب، طالما أن الحرب لن تفضي إلى احتلال المزيد من الأراضي، لكن هذه الرخصة لا تكاد تشبع نهم الرئيس التركي الذي يشير مراراً إلى وجوب شن عملية بريّة، لا سيما في كوباني ومنبج، فيما الترجيح يذهب إلى وجود رغبة تركية في احتلال كوباني لما لها من موقع رمزيّ في النضال الوطني للتخلّص من إرهاب داعش، فضلاً عن أن استهدافها لرمزيتها الكردية تزيد من فرص إقناع الاتجاهات الفاشية والقومية التركية بأهمية التصويت للعدالة والتنمية.

من المفيد أن تجمّد “قسد” حربها على “داعش” إلى حين؛ فالمفاضلة تستوجب التفرّغ لحماية الحدود والمناطق المهدّدة وحماية السكان، وقد يكون من المفيد أيضاً عدم الانجرار إلى حيث ترغب تركيا في أن تتطوّر المعارك لتصبح حرباً واسعة تمنح حكومة الحرب التركية فرصة تصدّر المشهد داخلياً، وأما التواصل مع واشنطن وموسكو لأجل ثني تركيا يبقى الجهد الأمثل، مع الأخذ بالحسبان مسألة قطع الطريق على تركيا التي تسعى إعلامياً إلى تشكيك “قسد” والقوى المحلية والسكان من جدوى التحالف مع واشنطن والتفاهم مع موسكو.

ثمة قناعة تتشكّل بأن هناك ضوء أخضر ممنوح للأتراك في سماء المنطقة، فيما لا إشارات سوى أكاذيب الإعلام التركي عن احتمالية التحصّل على ضوء آخر على الأرض، وإذا كان توقف الهجمات بالطائرات والمسيّرات متوقّعاً فإن الحكمة تقتضي الاستعداد لجولة جديدة من الأعمال العدائية قبيل موعد الانتخابات التركية؛ فالحرب وفق منطق الحكومة التركية هي امتداد للانتخابات، تحريفاً لمقولة العسكري البروسي كلاوسفيتز الأثيرة “الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى”.