العدوان التركي.. الأسباب والدلالات والرهانات والمآلات

اختار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، توقيتاً حساساً لإطلاق عدوانه ضد مناطق شمال شرقي سوريا، مستهدفاً كل شيء فيها، من القوى التي تسيطر على المنطقة أي قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، مررواً بالأهالي من مدنيين ينتمون إلى مختلف المكونات السورية، وصولاً إلى البنية التحتية من مؤسسات خدمية واقتصادية ومستشفيات، على شكل حرب إبادة شاملة تستهدف الوجود الكردي.

في التوقيت ارتبط العدوان التركي بعاملين أساسيين، أما الحجة فكانت التفجير الإرهابي الذي ضرب إسطنبول قبل نحو أسبوعين، في وقت يعرف الجميع أن هذا التفجير تم بأذرع تركية ليكون ذريعة للعدوان، أما العاملان، فهما:

الأول: استغلال أردوغان الدور التركي في الحرب الروسية – الأوكرانية الأطلسية، إذ بحكم موقع تركيا الجيوسياسي استفاد من هذه الحرب في جعل بلاده وسيطاً مقبولاً بين أوكرانيا وروسيا كما جرى بالنسبة لاتفاق تصدير الحبوب برعاية أممية، أو في الاستفادة من التناقضات والصراعات الروسية – الأميركية الأطلسية، واستغلالها وتسخيرها لتنفيذ أجندته في شمال شرقي سوريا وإقليم كردستان العراق، لطالما شكلت القضية الكردية عقدة السياسية التركية منذ قرن من الزمن، وقد ترجم ذلك بعدوانه المكثف ضد الكرد في البلدين أي سوريا العراق.                                     

الثاني: العامل الداخلي، والمتمثل أساساً في محاولة تغيير المشهد الداخلي لصالحه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، وهي انتخابات مصيرية له ولحزبه الحاكم، خاصة في ظل استطلاعات الرأي التي تشير إلى تقدم المعارضة عليه، والهزيمة التي تلقاها في الانتخابات البلدية في إسطنبول وأنقرة عام 2019، فضلاً عن تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية التي أدت إلى تدهور شعبيته حتى في حاضنته الحزبية مع استمرار تفاقم هذه الأزمات.

الجديد في هذا العدوان، تلك الحملة الإعلامية التركية المكثفة التي اعتمدت أساساً على لهجة أردوغان في الذهاب إلى أعلى درجات التصعيد إلى درجة أنه برز متحدياً اللاعبين الدوليين الأساسيين في سوريا، أي الولايات المتحدة وروسيا، وكذلك اللافت هو تدمير البنية التحتية خاصة منشآت الطاقة من غاز ونفط، وهو ما سيترك تداعيات كارثية على مناطق شمال شرقي سوريا بحكم أن الطاقة كانت تؤمن حالة الاستقرار والاكتفاء الذاتي لسكان أهل المنطقة، ومثل هذا الأمر له حساسية خاصة على أبواب الشتاء حيث البرد والحاجة إلى الكهرباء والتدفئة ووسائل النقل.                     

بعيداً عن الهدف التركي المعلن من العدوان، أي القضاء على الإدارة الذاتية، فإن هذا العدوان يحمل معه دلالات خطرة، أولها أن هذا العدوان هو صدام مباشر مع الجانب الأميركي الذي هو المعني الأول بالمنطقة وسياساتها، في وقت لم يرتقِ الموقف الأميركي إلى مستوى مخاطر هذا العدوان، لاسيما بعد أن استهدفت تركيا حقول النفط والغاز التي قالت الإدارة الأميركية مراراً إنها تحميها، بل وصل الأمر إلى حد استهداف مقار لقوات التحالف الدولي، فيما تكتفي واشنطن إلى الآن بالتصريحات الدبلوماسية، وتلتزم بالمواقف الضبابية، ومحاولة مسك العصا من المنتصف، وهو ما لن يردع تركيا عن عدوانها، خاصة في ظل تهديد أردوغان بعملية برية تطال تل رفعت ومنبح وكوباني – عين العرب، فيما في المقابل، تنأى روسيا بنفسها عن أي موقف جدي، وتحاول بطريقة أو أخرى تحميل قسد المسؤولية، بالقول إنها ينبغي عليها أن تتجه نحو دمشق دون تقديم أي رؤية حقيقة تقوم على التفاهم بين الطرفين على أساس سياسي، وبين ضبابية الموقف الأميركي والنهج الروسي المهادن، يصعد أردوغان من عدوانه ويسارع إلى فرض احتلاله عبر التدمير الجوي قبل أن يقوم بعدوان بري عبر تجهيز الفصائل السورية المسلحة التي تستعد للتحرك بأوامر تركية، وبتوقيت تركي، خاصة أن هذه الفصائل تحولت إلى أداة لحروب أردوغان الكثيرة.

من دون شك، أمام هذا المشهد الصعب والمعقد تبدو “قسد” ومعها المنطقة وشعوبها في محنة مصيرية تتعلق بالوجود والخيارات، إذ لا تكافئ في المواجهة مع جيش هو الثاني في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولعل الخطة التركية تستهدف جر قسد إلى مثل هذه المواجهة غير المتكافئة، لاسيما أن المنطق يقول إنه لا يمكن تفسير حجم القصف الجوي التركي الكبير دون تنسيق إن لم نقل موافقة ضمنية من الجانبين الأميركي والروسي، رغم إيحاءات الطرفين بنفي ذلك، فيما السؤال هنا، إلى أي مدى يمكن أن تساير الإدارة الأميركية عدوان أردوغان، وتبقى صامتة عليه لطالما أن ذلك بات يشكل صداماً مباشراً مع السياسة الأميركية في سوريا والمنطقة؟ وهل روسيا نفسها مستعدة لمسايرة أردوغان في تحقيق أهدافه حتى الأخير؟ الثابت إذ كانت هذه هي حسابات واشنطن وموسكو فإن أردوغان لن يكتفي بما سيحققه في شمال شرقي سوريا بل سيواصل ابتزازه للجانبين في الذهاب بعيداً لتنفيذ أجندته.

في الحسابات أيضا، ينبغي القول إنه ليس أمام “قسد” سوى الدفاع عن المنطقة في وجه العدوان التركي، وإذا كان القصف الجوي التركي يحقق أهدافه لجهة التدمير حيث ليست لدى “قسد” وسائل للمقاومة في الجو، فإنه على الأرض سيكون المشهد مختلفاً لاسيما بعد التجربة الكبيرة لـ”قسد” في هزيمة “داعش”، وامتلاك أسلحة ومعدات متطورة نسبياً، فضلاً عن عشرات آلاف من المقاتلين المدربين على مختلف أنواع الحروب البرية، وهو ما قد يغير من حسابات المعركة إذ توغلت تركيا براً، ولعل مثل هذا المسار سيكون امتحاناً للموقفين الأميركي والروسي معاً، سواء في التدخل لوقف العدوان التركي أو في دفع الأطراف المعنية للعودة إلى الاتفاقات الأمنية التي وقعت عقب العدوان التركي على المنطقة الممتدة بين رأس العين- تل أبيض عام 2019، إذ الواقع يقول إن لا مصلحة استراتيجية لهما في احتلال تركيا مناطق جديدة من سوريا، وأن هشاشة موقف الطرفين من العدوان التركي تنبع من محاولة الطرفين مسايرة أردوغان للاستفادة منه في الحرب الروسية – الأوكرانية الأطلسية، مع أن رهانات الطرفين على هذا النحو قد لا تكون دقيقة في ظل طموحات أردوغان الدفينة وأحلامه الممتدة من ليبيا إلى القوقاز.