محاولات تركية لضبط فوضى الشمال.. فهل تنجح؟

كان لنجاح العملية التركية “درع الفرات” في مناطق الباب وجرابلس والراعي داخل الأراضي السورية, بإسناد تركي قوي لفصائل الجيش الحر الأثر الكبير بتأسيس الجيش الوطني السوري في كانون الثاني/ يناير عام 2017, والسبب الرئيسي الذي دعا تركيا لهذا الإجراء هو الفوضى والعشوائية وابتعاد المركزية وغياب القرار الموحد عن عمل الفصائل الثورية والتي اضطرت معها تركيا لتشكيل غرفة عمليات مشتركة خاصة بطاقم من ضباطها لقيادة الأعمال القتالية للجانبين السوري والتركي, ومع الإعلان عن الجيش الوطني أبقت تركيا الباب مفتوحاً لانضمام بقية الفصائل ليكون هذا التشكيل المظلة العسكرية لكل فصائل الثورة السورية, وتأمل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من الدول العربية الخليجية دعم تدريب هذا الجيش إضافة للدعم التركي.

لكن ما يؤخذ على هذا الجيش أنه لم تُراع فيه الحرفية أو المهنية، وأقصي منه الضباط المنشقون وهم أساس أي تشكيل عسكري، لما يملكونه من معارف وخبرات ومهارات عسكرية لا يمكن تجاوزها في مسرح الأعمال القتالية، وبدلاً عن المنشقين تم الاعتماد على هواة مدنيين لا طاقة ولا معرفة لهم بأصول العمل العسكري، لكن يبدو أن المطلوب من قادة هذا الجيش كان الطاعة العمياء للضامن والراعي أكثر من صفات الحرفية والمهنية المفترض أن تتواجد بالعمل.

تم الاعتماد في الجيش الوطني على بنية تنظيمية وهيكلية تضم ثلاثة فيالق عسكرية وزعت عليها الفصائل بشكل عشوائي دون مراعاة للحاجة والاختصاص والتوازن، وتُركت فيها للقادة الحرية باختيار مكان التواجد، ولعبت الجغرافية الدور الأكبر بتحديد مكونات تلك الفيالق وكذلك العلاقات الشخصية بين القادة، ورغم كل محاولات البعض تلميع هذا الجسم الجديد والترويج لعمله كمؤسسة عسكرية، إلا أن النزعة الفصائلية والعشائرية والمناطقية بقيت هي السائدة في عمل “الجيش الوطني”.   

في تفاصيل تلك الفيالق سابقاً كان ملاحظاً مثلاً أن قدرات فرقتي سليمان شاه والحمزات في الفيلق الثاني تعادلان من حيث التعداد والقوة إمكانيات جيش الإسلام في الفيلق الثالث, وباقي مكونات الفيلق الثاني مع كامل الفيلق الأول تساوي تقريباً قدرات وإمكانيات الجبهة الشامية بالفيلق الثالث أيضاً, ناهيك عن قدرات باقي قدرات الفيلق الثالث, الذي وضع بشروط الانضمام إليه عدم قبول أي فصيل يقل تعداد عناصره عن الألف مقاتل, وإلا يتم تفكيك الفصيل وضمه لإحدى فرق الفيلق, وعلى سبيل المثال نقل البعض أن الفرقة 51 يبلغ تعدادها الأساسي (1500) مقاتل, لكنها توزع الرواتب لأكثر من 5000 عنصر بسبب إجبار قيادة الفيلق3 للفصائل الصغيرة الاندماج بالفرقة 51, وكذلك الكثير من المكونات التي تم دمجها بشكل (حقيقي) مع الجبهة الشامية التي تٌعتبر العمود الفقري للفيلق الثالث.

ورغم الفساد الذي تم الحديث عنه بقيادة الفيلق الثالث والذي لا يختلف عن باقي الفيالق إلا أن تنظيم الفيلق الثالث هو الأقرب للنظام العسكري وللتشكيلات العسكرية النظامية، وخاصة مؤخراً بعد حل مجلس الشورى والتخلص من كتلة المشايخ والإبقاء على القيادة العسكرية.

مصادر رفضت الكشف عن نفسها قالت إن قائد الفيلق الثاني المعين حديثاً فهيم عيسى هو ثاني قائد من أصول تركمانية بعد (دوغان) الأستاذ, قائد فصيل (محمد الفاتح) المنضم للفيلق الأول, وأن عملية انتقال فرقتي العمشات والحمزات ووضعهما تحت سلطات وأوامر فهيم عيسى بالفيلق الثاني هي خطة مدروسة ومقصودة من الجانب التركي (الجانب التركي بآخر اجتماع حضره معظم قادة الجيش الوطني واستمر لمدة 45 دقيقة, وكان اجتماعاً لتلقي الأوامر فقط وليس للنقاش, وفيه قيل لمحمد الجاسم “أبو عمشة” ولسيف بولاد “أبو بكر”: عليكما الالتحاق فوراً بالفيلق الثاني ودون نقاش, وذلك بعد إبلاغ الجميع بعزل العقيد أحمد عثمان من قيادة الفيلق الثاني وتنصيب فهيم عيسى قائداً بديلاً عنه), وهذا يعني للعارفين بالعلاقة غير الصحية التي تجمع هؤلاء جميعاً, أنها عملية ضبط لقادة ومكونات فرقتي العمشات والحمزات, ومنعهما مستقبلاً من أي تهور أو اتخاذ قرارات فردية غير مرغوبة, وتعني أيضاً تحجيم سياسة الديكتاتورية المطلقة لبولاد وأبو عمشة, وزيادة ضبط فسادهم (ضمن المعقول), والبديل بعدم وجودهما بالفيلق الثاني أو رفضهما العمل تحت قيادة فهيم عيسى, أن جيش الإسلام والجبهة الشامية ستتكفل بالإطاحة بهما ولن يكون هناك تدخل مرة أخرة لهيئة تحرير الشام كما حصل مؤخراً, والرسالة تلقفها كلاً من أبو عمشة وسيف أبو بكر وعملا بمضمونها لأن القرارات التركية كانت حازمة ولا تحتمل الجدال أو التهاون بالتنفيذ.

الحزم الذي أبداه الجانب التركي في عملية إعادة ضبط الفيالق والعودة للتنظيم القديم كان ناجماً عن تجربة سابقة دللت بشكل واضح على التهاون التركي فيما سبق, وعلى الفردية والشخصنة بعمل الفيالق ومكونات الفيالق, حيث انصرفت الفصائل لبناء تجمعات عسكرية لم يكن التحرير وقتال النظام هدفها, بقدر ما كانت تهدف لزيادة التحصين الشخصي للقادة, والسعي لبناء التشكيلات الأكبر والأقوى لتهديد بقية الفصائل والاستقواء عليها, بعد تفشي ظاهرة العداوات والاقتتالات البينية بين الفصائل نتيجة الصراع على المعابر والحواجز وطرق التهريب وزيادة الفساد, فكانت هناك تجميعات الجبهة السورية للتحرير وهيئة ثائرون وغرفة عزم وحركة البناء لتحرير سوريا, وكان سرعان ما تتشكل تلك التجمعات لتفرض نوعاً من التوازنات, ثم تعود لتتفكك بعد انسحاب بعض الفصائل والانضمام للطرف الآخر بحركات أقل ما يقال عنها أنها صبيانية فردية تعكس ضحالة التفكير وتعكس قرارات فردية غالباً ما تتعلق بمنافع ومكاسب القادة, وكانت وزارة الدفاع عبارة عن (شاهد مشفش حاجة) تشرعن الموجود لكنها محجوبة من أي قرار عسكري يخص تنقلات أو تموضعات أو قرارات قادة الفصائل.

الاجتماع الأخير عكس توجهاً تركياً بضرورة إعادة الهيكلة بعد الأحداث المؤسفة والتجاوزات التي حصلت والانتهاكات التي تكشفت من سرقات واغتيال وتغييب قسري وكم أفواه وما خفي أعظم, ومن ضمن التعليمات التركية الأخيرة أن عملية إعادة الهيكلة التي بدأت لن تكون نهائية وستمتد لنهاية العام الحالي 2022, وقد تشمل القرارات القادمة إقصاء وعزل بعض القادة المتهمين بالفساد والانتهاكات, أو فصل قادة يثار حولهم الكثير من الجدل بالداخل, وقيل بحسب بعض المصادر إن الضباط المنشقين سيكون لهم الدور البارز في عملية إعادة الهيكلة الجديدة, بعملية المقصود منها تلافي الأخطاء التي رافقت تشكيل الجيش الوطني منذ البداية, وأن الخطة الجديدة ستشمل إعادة تفعيل دور ومكانة وزارة الدفاع وبقية مؤسسات الحكومة, وقد تشمل وضع اليد التركية على كثير من أسباب الخلاف بين الفصائل ومنها المعابر والحواجز, مع قرارات لم تتأكد بعد بإبعاد الفصائل والمقرات العسكرية عن المدن, وتفعيل عمل المؤسسات المدنية ومكاتب الحكومة المؤقتة, والطلب من كافة الفصائل حل أجهزتها الأمنية, وإغلاق سجونها غير الشرعية, وإلغاء جميع حواجز المنطقة وتسليمها للشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني, وإنشاء جهاز أمني موحد يتبع لوزارة الدفاع, مع منع الجيش الوطني من التدخل بأي شكل من الأشكال في عمل الإدارتين الأمنية والمدنية وبمختلف القطاعات والتي سيكون لها ترتيب خاص في مرحلة لاحقة بعد الانتهاء من ترتيبات الإدارة العسكرية الموحدة.

والخطة التركية ولتأمين ضبط أوضاع وعمل كامل المؤسسات بالشمال السوري ستشمل من حيث المبدأ والضرورة تأمين انسحاب “هيئة تحرير الشام” ولكامل كوادرها العسكرية والأمنية من منطقة عفرين التي دخلت إليها مؤخراً دعماً لبعض الفصائل المتحالفة معها (العمشات, الحمزات, فرقة أحرار الشام32)، واستغلته الهيئة لدخول مدينة عفرين شمال غربي حلب في محاولة منها لتغيير خريطة السيطرة بشكل كامل, وفرض أجندتها الأمنية والعسكرية بعد أن وصلت أرتالها إلى تخوم مدينة أعزاز في ريف حلب الشمالي، والتي تعد المعقل الأهم لقوى المعارضة, وتشمل الخطة الانقاذية التركية تشكيل هيئة استشارية من قادة الفيالق الثلاثة في “الجيش الوطني” مع الحكومة المؤقتة ووزارة الدفاع، مهمتها التنسيق مع الجانب التركي وإدارة المنطقة, مع تعليمات قاطعة بعدم اتصال قادة الشمال بأي أطراف خارجية سواءاً كانت محلية أو خارجية غير الجهة التركية التي تولت الملف السوري وباتت هي فقط من تصدر الأوامر وعن طريق الهيئة الاستشارية حكماً.

تطبيق التعليمات التركية وتنفيذ تلك الأوامر بحذافيرها يهدف بالدرجة الأولى لإعادة الاستقرار والأمن للشمال السوري في أوقات حرجة تمر بها تركيا, سواءاً كان عبر الاستحقاق الانتخابي القادم في الداخل التركي, أو عبر ضرورة ضبط الأمن والحدود بعد عملية إرهابية طالت عمق الأمن التركي في شارع الاستقلال في قلب مدينة إسطنبول, لكن ما يعاب على المحاولات التركية أنها تكرر اعتمادها على أدواتها القديمة مما قد يُضعف مسعاها, أما تجميع فصائل محددة عُرفت بتنسيقها مع هيئة تحرير الشام تحت قيادة فهيم عيسى في الفيلق الثاني فهي رسالة مزدوجة لزعيم هيئة تحرير الشام ولقادة تميل له أن ما حصل لن يتكرر, وأن حدود مناطق غصن الزيتون لن تكون متاحة مرة أخرى لتجاوزات وتغيرات تخل بخرائط السيطرة, وللتأكيد على  تلك الناحية أقامت تركيا حاجزاً ونقطة عسكرية قرب معبر الغزاوية الفاصل بين مناطق الجولاني ومناطق غصن الزيتون, وبرسالة أخرى وصلت للجولاني عندما حاول السطو على معسكر “الترندة” التابع لحركة أحرار الشام, طلبت تركيا من الفيلق الثالث عدم التحرك وتكفلت قواتها وعرباتها التي حضرت للمكان بوقف تعديات الجولاني ومنعه من مهاجمة المعسكر وطرده من المكان, وهي رسائل مغزاها واحد: لا تغير بمناطق النفوذ, ولا مكان للجولاني في مناطق غضن الزيتون ودرع الفرات, لكن المهمة التركية لم تنته بعد, وهي تدرك أن هناك المئات من عناصر الجولاني ما زالوا متخفين بلباس ورايات فصائل الحمزات والعمشات في مناطق غصن الزيتون.