“هشاشة” الرواية التركية من كوباني إلى أوروبا الشرقية
أربيل- نورث برس
بين من يراها استخفافاً بعقول الناس، وآخرون ذهبوا إلى أبعد من أنها رواية اتهامات ونفي، تستمر تبعيات تفجير إسطنبول منذ الأحد الفائت، بإحداث جدل في الداخل التركي وخارجه، بينما استخدمته أنقرة قبيل ساعات، ذريعةً لشن هجوم جوي واسع النطاق على مناطق بشمال شرقي وسوريا.
وتتهم تركيا جهات كردية، نفت صلتها قطعاً بحادثة إسطنبول، في حين ألصقت أنقرة بها التهم وأعقب ذلك بأسبوع غارات جوية الليلة الفائتة على مناطق حدودية من شمال شرقي سوريا أشرسها في كوباني، والتي أعلنت عنها قوات سوريا الديمقراطية في بيان مقتصب بالقول: “المدينة التي دحرت داعش تتعرض للقصف الجوي التركي”.
فبعد التفجير الذي وقع في شارع “تقسيم” الشهير بإسطنبول مباشرة، وأسفر عن ستة قتلى وعشرات الجرحى، روت السلطات التركية أن المشتبه في تنفيذه “سيدة سورية تدعى أحلام البشير(..) دخلت البلاد مع شخص آخر قبل 4 أشهر”.
وتزعم السلطات التركية أن السيدة “السورية”، “مرتبطة بوحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني، وتلقت تدريبات وأوامر من كوباني، ودخلت البلاد عبر عفرين تلك المدينة التي تخضع لسيطرة الجيش التركي وفصائل موالية لها.”
ثم جاء النفي سريعاً من كل جهة اتهمتها أنقرة، ونأت بنفسها عن تنفيذ مثل هذه العمليات.
والزاوية التي جعلت للرواية التركية تحليلات لم تكن متباينة إلى حد كبير، هي أنها تأتي في وقت كانت ولازالت أنقرة مصدر التصريحات المناؤة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، بالتزامن مع التهديد المستمر بشن عملية عسكرية آخرى، بينما تستعد البلاد لانتخابات مصيرية الصيف المقبل.
أما آخر معطيات الحادثة فقد ظهر للرأي العام يوم أمس ببلاغ صادر من السلطات القضائية البلغارية في العاصمة صوفيا، تقول إنها ألقت القبض على خمسة مشتبهين بهم بالحادثة بينهم واحد من أصول عربية وأربعة من مولدوفيا (جمهورية في شرق أوروبا).
وفيما لم تدلِ بلغاريا بالمزيد من التفاصيل عمّا يتعلق بالمزاعم التركية حول مصدر الهجوم، قالت إن عملية الاعتقال جرت تحت إشراف إدارة “أنشطة مكافحة الإرهاب” في مكتب المدعي العام بالعاصمة صوفيا.
رؤى محليين
يقول الكاتب والباحث السياسي خورشيد دلي، إن “هشاشة” الرواية التركية تبدأ من مزاعم وصول السيدة المعتقلة إلى تركيا انطلاقاً من كوباني ثم عفرين ومنها إلى إسطنبول.
وأوضح “أن المنطقة التي ذكرتها السلطات التركية بعد الخروج من كوباني على حد زعمها، كلها تخضع لسيطرة ونقاط الأمن التركي، بما فيها عفرين حيث أشار وزير الداخلية التركية إلى أنها المدنية التي دخلت عبرها الامرأة إلى تركيا”.
وقال دلي، إن “السيدة لا تبدو سورية ولا تبدو عليها علامات ولا حتى بالملامح صلتها بالكرد، الأمر الذي يفند الرواية التركية أيضاً”.
وتساءل الباحث: “كيف يمكن تصوّر أن سيدة تضع الميكآب فتذهب إلى تنفيذ عملية، ثم تعود إلى المنزل ويتم اعتقالها بكل بساطة ومن دون مقاومة؟”.
وقال دلي: “حتى الآن ليس هناك أي دليل أو إثبات تدل على هوية أو وثيقة شخصية، لدرجة أن المزاعم التركية افتقرت حتى لتسجيل صوتي من السيدة أو لغتها كونها أبسط الأمور التي توحي بتبعيتها”.
أما التوقيت “المهم” حيث وقع التفجير قبل ساعات من القمة في بالي باندونوسيا وبحضور الرئيس التركي، جاء مستغلاً من جانب أردوغان يتسنى له الحديث وبشكل مباشر مع الزعماء هناك ويثير مخاوفه عسى أن يحصل على ضوء أخضر للقيام بعمليته المتعثرة، أو على الأقل وقف الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية، حسب “دلي”.
انتخابات
ويتيح هذا الحادث إمكانية استغلاله في السباق الانتخابي بتركيا، حيث يوجد جهتان متسفيدتان، وهما الحركة القومية بقيادة دولت بخجلي الحليف مع حزب العدالة والتنمية، وفقاً للمحلل.
وأوضح “دلي” أن الحركة القومية بدا أنها أدركت خسارتها مسبقاً في الانتخابات في حال سعي أردوغان كسب دعم الكرد عبر حزب الشعوب الديمقراطي، وقد حصل ذلك بالفعل حين أرسل أردوغان وفد رفيعاً إلى الشعوب الديمقراطي للتفاوض معه في هذا الشأن.
وقال إن الحركة القومية لها نفوذ في الأجهزة الأمنية “يرجح أن تكون هي وراء التفجير لمنع التقارب بين العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي”.
وأثار التفجير النادر من نوعه في إسطنبول جدلاً واسع النطاق بين من يصفه بالمسرحية ومن يراه أداةً لمرامٍ سياسية في البلد المقبل على انتخابات “صعبة” على حزب العدالة والتنمية الحاكم في حزيران/ يونيو المقبل.
ويرى “دلي” أنه من جانب آخر “قد يستفيد العدالة والتنمية من العملية هذه، إذ يشرعن من خلالها تهديداته بشن عمليات عسكرية في سوريا ، وممارسة الضغط على اللاجئين السوررين، كونه ملف مهم للترويج للانتخابات المقبلة. بالإضافة إلى التغطية على الأزمة الاقتصادية وما تشهد البلاد من الضغوط على حزب السلطة.”
ويأتي كل ذلك بينما يرى حزب السلطة استطلاعات الرأي التي تشير إلى انهيار شعبيته داخل تركيا.
أما بخصوص بيان التحذير الصادر عن القنصلية الأميركية في أربيل، قال “دلي”: ثمة نوع من الخلط بين مصادر السياسة الأميركية، نظراً إلى أن مصادر في القائمين على السياسة الأميركية “تنصلت من البيان ووصفته بنوع من التهويل.”
تحذير أميركي
والجمعة، حذرت القنصلية الأميركية في أربيل رعاياها من السفر إلى شمالي سوريا والعراق، بسبب عملية عسكرية تركية محتملة في المنطقة.
وجاء التحذير بعد تجدد التهدديات التركية بشن عمليات في العراق وسوريا، في أعقاب تفجير إسطنبول، بينما وجهت أنقرة الاتهامات بشكل مباشر إلى وحدات حماية الشعب وبالتحديد مدينة كوباني كمصدر لتنفيذ عملية التفجير، وهو المكان الذي ارتكز عليه الهجوم الجوي التركي ليلة أمس.
واعتقد “دلي” أن جهة آخرى توجد في الإدارة الأميركية ميالة نوعاً ما إلى تركيا وعملياتها في سوريا، لذا ربما هذا التحذير قد يأتي ضمن إطار المصالح المشتركة بين تلك الجهات وتركيا.
وأضاف: “عموماً تتناقض السياسية الخارجية الأميركية مع هذا التوجه خاصة أن التواجد الأميركي العسكري مستمر في المنطقة وأي عملية قد تتسبب بنوع من الصدام”.
وأعرب “دلي” عن اعتقاده أن بيان القنصلية التحذيري من هجمات عسكرية تركية محتملة له غايات سياسية وليس عسكرية خاصة أن المؤشرات الدولية لم توحِ بعملية تركية كما تصور البعض.
والرئيس أدروغان الذي يواجه إضرابات وأزمة داخلييتين يسعى لتصديرها إلى الجنوب نحو الحدود مع سوريا مهدداً بعملية اجتياح جديدة لكنها واجهت رفضاً دولياً حتى اللحظة.
ومنذ ذلك الحين، تواصل تركيا عملياتها المدفعية والمسيّرة على طول المناطق السورية الحدودية.
ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية في مطلع صيف 2023، ذهب الكثير من المراقبين إلى أن وراء التفجير مكاسب سياسية وانتخابية، مرجحين أن تكون سلطات الحزب الحاكم هي التي تقف وراء الحادثة.
لكن الباحث السياسي والأستاذ في التاريخ، الدكتور جواد البيضاني يحلل حادثة اسطنبول أكثر بعداً من مجرد اتهامات متبادلة.
مافيات دولية
يقول البيضاني في حديث لنورث برس، إن “حزب العمال ليس له علاقة بما حدث في إسطنبول، ولو كان هو من فعل لتبنى المسؤولية وتكررت عملياته بهذا الشكل وعلى نطاق أكبر، إلا أن الحزب ينأى بنفسه من استهداف تجمعات المدنيين وهذا أمر معروف عنه”.
لكن “البيضاني” يرى أن “السلطات التركية هي الأخرى ليس لها مصلحة بأن تقف وراء مثل هذه العملية لأن تركيا تمر في مرحلة إثبات حالة استقرار وطمئنة العالم بأن سياستها تتجه بشكل متسارع نحو بناء تركيا بالمفهوم الذي يتوافق مع الرؤية الغربية”.
وعلل الباحث العراقي حديثه بدور تركيا مستغلةً حرب أوكرانيا “لتحقيق مكاسب كاتفاقية الحبوب واستضافة اجتماع استخباراتي بين موسكو وواشنطن ومحاولة لعب دور الوسيط أو تقريب وجهات النظر الروسية الغربية”.
وأوضح أن تركيا تريد “تذليل العزلة” التي كانت تواجهها على مدار السنوات الفائتة، “ما يعني ليس من مصلحتها أن تشهد حالة عدم استقرار أمام أنظار الخارج والداخل التركيين”.
وخلص “البيضاني” في اعتقاده إلى أن من يقف وراء الحادثة “يرتبط بمافيات عالمية كبيرة”.
وأيضاً ما يثبت تورط جهة دولية كبرى في الحادثة، بحسب “البيضاني”، هو أن ثمة مشتبهين حتى في مولدوفيا على ما أعلنته السلطات البلغارية أمس السبت، في حين من المعروف أن البلد الشرق الأوروبي هذا يعتبر “بمثابة مركز متقدم لعمل الاستخبارات الإسرائيلية”.
بالمحصلة كل ما حدث يصب في سياسية تنظيم المصالح الدولية وتسيير الحكومات وفقاً لمكاسب اقتصادية كبرى لصالح منظومة الشركات المتحكمة بسياسات الدول، حسب ما أشار إليه الباحث العراقي.
وقال “البيضاني” إن الولايات المتحدة ليس لها علاقة جيدة مع تركيا، بينما توجهت أنقرة إلى فتح علاقات مع الشرق مع روسيا الصين وحضورها الملفت في قمة شنغهاي الفائتة، كل هذه الخطوات لا تلقى استحسان واشنطن.
وفسر “البيضاني”، أن ما حصل قد يكون نوعاً من الصدام بين المنظومة السياسية الأميركية والمنظومة الاستخباراتية الأميركية، حيث تريد الأخيرة ولتمرير بعض الأجندات العليا التي تيسرها منظومة رأسمالية كبرى، إيقاع الجهة السياسية في الإدارة الأميركية في مأزق يدفعها للتحرك لصالح الأولى”.
كيف يحصل ذلك؟، يرد الباحث على سؤاله بالقول: “عند حدوث التفجير، الجميع يعلم أن السلطات التركية لم تقف مكتوفة الأيدي حين يروى أن الجهة المنفذة للتفجير هي حزب العمال الكردستاني، لذا سيأتي الرد من السلطات في البلد المقبل على انتخابات ضد حزب العمال الكردستاني في العراق وضد قسد في شمال شرقي سوريا”.
وأضاف: “بينما ترتبط قسد ارتباطاً وثيقاً بالقوات الأميركية وبينها اتفاقيات على مستوى كبير، دون نسيان نقطة أن القوات الأميركية ترتبط بالمنظومة السياسية الأميركية. وبالمقابل يصبح الحزب الديمقراطي الكردستاني هو الآخر في موقف محرج إذا ما تعرضت مدنه في إقليم كردستان لقصف تركي وبالتالي اللجوء إلى حليفتها الولايات المتحدة، ما يعني تدخّل الأخير للحماية، فهنا تكتمل خطة التعاطي بين السياسية الأميركية وما بين الإدارة الأميركية كحكومة مرتبطة بمنظومة الشركات الكبرى.”