إحدى المراحل المتأخرة من تحولات الأزمة السورية يمكن عدها مرحلة المطالبة بالحوار بين السوريين سواء بين أطراف المعارضة المختلفة، أم بينها وبين النظام، لأن المطالبة بالحوار صارت حاضرة في الخطاب السياسي لجميع أطراف الأزمة السورية، بعد أن كاد يخلوا منها. ومع أن مفهوم الحوار في مدلوله اللغوي أو الاصطلاحي يقتضي التنازل للوصول إلى توافقات وسط، لكن الحوار السوري، إذا جازت التسمية، يحاول كل طرف فيه جذب الطرف الآخر إلى موقعه، وليس البحث عن نقطة تلاقي وسطية. ورغم عقد جلسات حوارية عديدة بين مختلف أطياف المعارضة فلم تصل إلى أي توافقات سياسية جدية، عداك عن التوافق على ممارسات سياسية مشتركة. يعود فشل الحوار بين أطراف المعارضة السورية المختلفة إلى ثلاثة أسباب رئيسة: الأول منها أنها جميعها مكونة استبدادياً، والثاني أن أغلبها يرتبط بأجندات خارجية، والثالث افتقارها إلى الحس بالمسؤولية تجاه بلدها وشعبها.
ويبقى الحوار بين المعارضة والنظام أساسياً للخروج من الأزمة، لكن قادة النظام أكثر تشدداً من بقية أطراف الأزمة من السوريين في رفض الحوار بما يعنيه البحث عن حلول وسط. يحسب قادة النظام أنهم على صواب دائماً، فالحقيقة عندهم، وما على الآخرين سوى القبول بالتسويات التي يقترحونها. ففي أول ظهور إعلامي لرئيس وفد النظام السوري إلى مفاوضات جنيف3، بشار الجعفري صرح بأن فاتحة قرآن نظامه في هذه المفاوضات هي “محاربة الإرهاب، والحوار السوري – السوري، بدون أي تدخل أجنبي”. بجملة واحدة، جمع الجعفري بين مسألتين: واحدة فيها الكثير من المصداقية، أما الثانية فلا تعدو كونها محض افتراء. فعندما جعل الجعفري محاربة الإرهاب في مقدمة قرآن نظامه فإنه أراد الاستثمار السياسي في مصطلح صار شائعاً، ومستقراً في الإعلام، وفي الخطاب السياسي الدولي، يشير إلى محاربة “داعش” و”النصرة”، والقوى الجهادية الأخرى كجواز مرور للاستمرار في محاربة كل من يعارضه. غير أن مفهوم “الإرهاب” من منظور كثير من السوريين، لا يقتصر على تنظيمات الإسلام السياسي المسلحة، بل يشمل كثيراً من سلوكيات النظام ذاته، بدءاً من الطرد من الوظائف، والحرمان من مصادر الرزق، إلى الزج بالسجن لعشرات الآلاف من المعارضين ومنهم من قضى نتيجة التعذيب أو السجن لفترات طويلة.
أما بالنسبة “للحوار السوري- السوري بدون تدخل أجنبي” كجزء من فاتحة قرآن النظام، فقد كان مجرد كذبة كبرى لتمرير الوقت والرهان على تغيير ظروف الأزمة في صالحه. في الواقع لم يعد لا النظام، ولا أغلب فصائل المعارضة الفاعلة، وخصوصاً العسكرية منها، مستقلة الإرادة السياسية، بل مجرد أدوات للقوى الدولية المتصارعة على سوريا. فمن جهة صار النظام رهينة لإيران والميليشيات الطائفية التي دفعت بها إلى حلبة الصراع في سوريا لنصرته، وكذلك لروسيا التي لم تكتفِ بتزويده بكل مستلزمات الحرب، بل أرسلت قواتها الجوية لمنع انهياره. هذه المساعدات الأجنبية للنظام أسست لضغوطات سياسية عليه أخذت في البداية شكل نصائح، لكنها تالياً أخذت صيغة أوامر دبلوماسية، وهذا ما تمثل في قبول النظام لتطبيق القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن بإجماع أعضائه.
لم يكن لهذه الموافقة أي قيمة عملية إذ سرعان ما تجاوزها النظام، وأخذ يتحدث عن “التدخل الخارجي” في الحوار “السوري-السوري”، كذريعة للتنصل مما وعد به الروس. وهو يمارس النهج ذاته في إطار اللجنة الدستورية، بل وفي الحوار(المفاوضات) الذي يجريه ممثلو الإدارة الذاتية مع ممثليه الأمنيين.
أما من جهة المعارضة، وتحديداً تلك التي صارت تعرف بالمعارضة الخارجية، بتنظيماتها السياسية أو العسكرية، فهي في النشأة والتكوين واستمرار الوجود حصيلة إخصاب أجنبي متعدد بأنبوب سوري. في ظل هذا الواقع من السخرية أيضا الحديث عن استقلال الإرادة السياسية لهذه “المعارضة” السورية، أنها في الواقع مجرد أدوات في مشاريع أجنبية متصارعة على سوريا. هذه الأحكام السياسة عليها كان أول من أصدرها أعضاء من داخلها، رغم أنها معلومة لغيرهم، وحتى الدول المتدخلة في شؤونها لا تخفي ذلك. وبمجرد أن تنتهي وظيفتها لدى مشغليها تتخلى عنها كما تفعل اليوم تركيا مع الائتلاف، وكما فعلت قبلها السعودية وقطر مع المسلحين.
إن مقولة الحوار “السوري –السوري بدون تدخل أجنبي” كذبة كبيرة، وما أكثر الأكاذيب في خطاب السلطة والمعارضة، ويبدو لي أن الأكاذيب التي رافقت انتفاضة الشعب السوري وحرفتها عن اتجاهها الصائب، مستمرة تصاحبها أيضاً اليوم في مرحلة المفاوضات في إطار ما اصطلح عليه بالسلة الدستورية، ولن تتوقف إلا إذا جلست القوى الدولية المتدخلة في الشأن السوري لاتخاذ قرار لحل الأزمة السورية واجب التنفيذ. في مؤتمر طهران الذي عقد مؤخراً وشارك فيه رؤساء الدول الضامنة لمسار استانا روسيا وتركيا وإيران كانت الأزمة السورية القضية الرئيسة على جدول الأعمال. وعلى ما يبدو اتفق المؤتمرون على تسريع المصالحة بين النظام السوري والنظام التركي، ليس من أجل حل الأزمة السورية، بل من أجل التخفيف من حدة التأثير السلبي لبعض نتائجها على جميع أطراف مسار استانا.