الاستثمار في تفجير إسطنبول ودلالة التحذير الأميركي

فور وقوع تفجير إسطنبول الذي أوقع ستة قتلى وعشرات الجرحى، وجهت السلطات التركية الأنظار إلى حزب العمال الكردستاني دون انتظار نتائج التحقيق أو حتى وجود أدلة تثبت ذلك، ورغم كل محاولات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو الربط بين منفذة التفجير أحلام البشير وشمال شرقي سوريا إلا أن تصريحاته جاءت متناقضة وهشة وتفتقر إلى أي مصداقية، فتارة قال إنها جاءت من عفرين المحتلة قادمة من كوباني، وأخرى قال إنها قدمت من منبج بعد أن اتضح له أن القدوم من عفرين المحتلة شبه مستحيل في ظل كثافة قوات الاحتلال التركي هناك، والجدار العازل الذي يفصلها عن المحيط، حيث لا يمكن الذهاب منها إلى تركيا إلا عبر البوابات الأمنية التركية، وهو ما نسف رواية صويلو، فضلاً عن معطيات أخرى تؤكد عدم صدقية الرواية التركية، إذ كيف يمكن لسيدة أن تنفذ عملية إرهابية وهي في كامل زينتها؟ وكيف لإرهابية أن لا تقاوم لحظة اعتقالها؟ والأهم أن سماتها الشخصية لا تشبه السوريين إلى درجة أن بعض الروايات قالت إنها صومالية، والأهم مما سبق، فإن السلطات التركية لم تبرز حتى الآن أي وثيقة، كبطاقة هوية أو جواز سفر أو بطاقة إقامة لإثبات هوية منفذة التفجير.                  

مقابل هشاشة الرواية التركية، بدا الاستغلال السياسي للتفجير واضحاً لجهة التوقيت والأهداف والدلالات، في التوقيت جاء التفجير في وقت كان أردوغان في مطار إسطنبول يتهيأ لزيارة بالي الأندونيسية للمشاركة في قمة مجموعة العشرين، إذ من شأن مثل هذا التفجير توفير حجة قوية له خلال لقاءاته مع قادة الدول الكبرى للقول لهم إن بلاده تتعرض للإرهاب، وتحديداً من قبل حزب العمال الكردستاني، خاصة أن سابقة تغيير السويد موقفها من الحركة الكردية على خلفية تطلعها لموافقة تركيا على طلبها نيل عضوية حلف الأطلسي شجعته على المضي في هذا المسعى.

فيالأهداف والدلالات السياسية لاستغلال التفجير يمكن الوقوف عند جملة أهداف لتحالف أردوغان – باهجلي، لعل أهمها:

  1. في الخارج، وضع خيار القيام بعملية عسكرية في شمال شرقي سوريا على الطاولة من جديد بعد أن تعثر ذلك في السابق بسبب المواقف الدولية والإقليمية الرافضة لمثل هذه العملية، ولعل نظام أردوغان يعتقد أن وصفة الإرهاب ستكون كفيلة بتغيير مواقف قوى دولية وعلى رأسها الولايات المتحدة من عمليته العسكرية التي يعتقد أنها كفيلة بتحقيق أجندته، وعلى رأسها إعادة اللاجئين السوريين إلى المناطق التي تريدها تركيا، واستكمال التغيير الديمغرافي في شمال شرقي سوريا، وبالتالي فرض شروطه على دمشق في إطار ما تسمى بالمصالحة معها، لتبقى تركيا القوة الأكبر المؤثرة في الحدث السوري الداخلي ورسم مساره المستقبلي، والأهم من كل ما سبق وأد مشروع الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا.
  2. الاستثمار في التفجير في الداخل على عدة مستويات، لعل أهمها خلق حالة من التعبئة والحشد الداخليين خلف نظام حكم حزب العدالة والتنمية، من خلال القول إن نظامه وحده القادر على حماية الأتراك من (الإرهاب)، وصرف أنظار الأتراك عن الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية التي أدت إلى تراجع شعبية أردوغان وحزبه، والأهم أن التفجير يساعد أردوغان على محاربة خصومه السياسيين، لا سيما كمال كليجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري، إذ أن التفجير وفر له فرصة مهمة لاتهام كليجدار أوغلو بالعمالة للولايات المتحدة بعد زيارة الأخير لها، حيث اتهامات نظام أردوغان للولايات المتحدة بالعمل لتقسيم تركيا، ودعم الإرهاب في إشارة إلى قوات قسد، ولعل هذا ما يفسر رفض الحكومة التركية التعزية التي قدمتها الإدارة الأميركية لها بخصوص تفجير إسطنبول.

3 – في محاولة لفهم أهداف التفجير على صعيد الانتخابات التركية، لا يمكن الذهاب بعيداً عن قضية توزيع الأدوار بين أردوغان وباهجلي، إذ أن التفجير جاء بعد أيام من اللقاء الذي جرى بين حزب العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطية، وإذ كان اللقاء رسالة انتخابية من أردوغان للقول إنه لا يعادي الكرد وتطلعاتهم وممارستهم للنشاط السياسي بدليل اللقاء نفسه، طبعاً كل ذلك بهدف الحصول على أصواتهم في الانتخابات المقبلة، فإن الأمر بالنسبة لباهجلي مختلف، إذ أنه يدرك في العمق أن أي تقارب بين الحزبين المذكورين سيكون نهاية سياسية لتياره القومي المتطرف، وعليه ثمة من يرى أن التفجير لم يكن بعيداً عن أذرع باهجلي في المؤسسات الأمنية التركية، لا سيما صويلو الذي يشكل ذراعه الأقوى، وهو بذلك أراد المزيد من الحشد القومي خلف تحالفه مع أردوغان وبتنسيق معه، مع علمهما المسبق بأن خسائر أي تفجير إرهابي هو أقل ثمنا في ميزان حسابات السياسة والسلطة، ولعل هذا ما يذكرنا بجملة تفجيرات إرهابية حصلت قبل وبعد انتخابات عام 2015 وأسهمت في رفع شعبية تحالف أردوغان – باهجلي بعد الفوز الكبير الذي حققه حزب الشعوب الديمقراطية، وهو ما دعا أردوغان إلى اجراء انتخابات مبكرة في العام التالي والفوز بها.

من دون شك، توحي التصريحات التركية أن تفجير إسطنبول سيكون له ما بعده، وبالدرجة الأولى وضع التصعيد ضد شمالي سوريا والعراق بصورة أقوى على الطاولة، ولعل هذا ما يفسر بيان القنصلية الأميركية في أربيل بخصوص دعوة الرعايا الأميركيين إلى عدم زيارة هذه المناطق، وربط ذلك بعملية عسكرية تركية محتملة، ومع التأكيد على أن التصعيد التركي ليس بجديد، فإن بيان القنصلية الأميركية يثير تساؤلات بالجملة، سواء في المضمون أو في الشكل، ففي الوقت الذي تحدث البيان عن تقارير موثوقة ذهب إلى وضع الأمور في خانة الاحتمال! وهناك فرق كبير بين الموثوق والمحتمل خاصة أننا نتحدث عن الولايات المتحدة، كما أن التحذيرات الأميركية بهذا الخصوص تصدر عادة عن وزارة الخارجية التي نقلت مصادر عنها أن بيان قنصليتها احتوى على التهويل، وهو ما يطرح السؤال عن حقيقة ما صدر عن القنصلية الأميركية، والترويج التركي له بشكل كبير إلى درجة الاعتقاد بأننا على وشك عملية عسكرية تركية جديدة، فهل ما جرى يعبر عن تيارات داخل الإدارة الأميركية توالي السياسة التركية؟ سؤال بغض النظر عن الإجابة عنه، فإنه يصب ضد الاستراتيجية الأميركية المعلنة تجاه شمالي سوريا والعراق، خاصة في ظل الوجود الأميركي هناك، وإعلان واشنطن مراراً أن استقرار هذه المنطقة يعنيها، لاسيما في ظل الحرب المستمرة ضد تنظيم داعش الإرهابي والمخاوف من صعوده من جديد.                                                                من دون شك، تفجير إسطنبول حمل دلالات كثيرة قد لا تتضح مآلاتها إلا بعد حين، لكن الثابت أنها شكلت عنواناً خطراً للمرحلة المقبلة، سواء في الداخل التركي في أن يكون هذا التفجير بداية لسلسلة تفجيرات أخرى حتى موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة بغية استثمارها في الانتخابات، أو في القدرة على تحويل تداعيات ما جرى إلى تصعيد عسكري في الخارج وللهدف نفسه، لطالما البقاء في السلطة باتت البوصلة الوحيدة التي تحدد سياسة أردوغان إزاء كل فعل أو سلوك أو قضية.