نازحة من حلب تكافح في القامشلي لإعالة أسرتها
القامشلي – نورث برس
غرفتان صغيرتان تضمان بضع مستلزمات، يجاورهما غرفة أصغر مساحة منهما، حولتها شحيده إلى مطبخ وحاولت جاهدة أن تضع أشياءها بأماكنه، وفي الخارج أغطية خُيطت مع بعضها لتشكل جداراً يفصل منزلها عن جيرانها.
بعد 12 ساعة عمل متواصلة، عادت شحيده العنيزي (35 عاماً) إلى منزلها منهكة القوى ودون أن تستريح من التعب، بدأت بإنجاز الأعمال المنزلية التي استغرقت منها ساعتين وجلست في النهاية تحادث طفليها اللذين سبقاها في الوصول إلى المنزل.
في حي أم فرسان شرقي القامشلي، تسكن السيدة الثلاثينية التي تعرف باسم مريم ضمن الحي، لم تغادره منذ أن قدمت من حلب قبل عشر سنوات واقتصر الأمر على الانتقال بين عدة منازل.
تنظر النازحة إلى طفلها الذي أكمل عامه العاشر بعيداً عن مسقط رأسه، وتقول بلهجتها “كل همي أربي هالولدين وأمن أكل الهم”.
ويبدو أن مقولة الشاعر أبو الطيب المتنبي “المصائب لا تأتي فرادى”، تنطبق على حال “العنيزي”، فالحرب بداية، تلاها فقدان الزوج وتدمر منزلها بالكامل، لترسو بها عواصف الحياة في خيمة على أطراف مدينة القامشلي مع طفلين بلا أي مستلزمات.
لا تنكر السيدة بينما كانت في طريقها سيراً على الأقدام إلى محلها، أن غياب الأب عن المنزل وضعها أمام المسؤولية الكاملة في تربية الطفلين وتأمين مصروفهما ورعايتهما وزادت عليها الأعباء.
تضيف بعد أن توقفت برهة لأخذ استراحة، “كافحت ولم أستسلم رغم كل شيء صار، قدرت وقف على رجلي واعتمد على حالي لعيّش ولادي من عرق جبيني”.
“ما بقيلنا شي بحلب”
وفي محلها الخاص بخياطة الملابس، تسرد “العنيزي” مقتطفات من الماضي الذي يعود لما قبل الحرب السورية، حين كانت برفقة زوجها تعيش حياة “بسيطة”، وكانت تسير على ما يرام كحال الكثيرين من ذوي الدخل المحدود.
تضيف: “كنا نعيش بأمان وراحة في حلب كأي عائلة، زوجي كان عامل يعمل لتأمين مصروف بيتنا”.
ولكن في يوم من العام 2012 وبينما كان متوجهاً إلى عمله، استقرت رصاصة طائشة في جسد الزوج أفقدته حياته، وحينها كانت حلب تعيش معارك حامية الوطيس بين القوات الحكومية وفصائل المعارضة (الجيش الحر آذاك).
ومع اقتراب الاشتباكات أكثر من منزلها وسوء الوضع الأمني، غادرته السيدة برفقة طفليها وبقيت تنتقل ضمن المدينة لأربعة أشهر متواصلة بين منازل أقاربها، على أمل أن تهدأ الأوضاع.
لكن الأوضاع لم تجرِ كما كانت “العنيزي” تأمل، فضراوة القصف والاشتباكات أتت على منزلها كما آلاف المنازل وحولته إلى كومة ركام.
“ما بقيلنا شي بحلب” وخوفاً من أن يواجه الطفلين مصيراً مشابهاً لوالدهما، تركت النازحة مدينتها واتجهت إلى القامشلي في ذات العام.
ولا يتذكر الطفلان أي شيء عن منزلهما في حلب ولا يملكان ذكريات عن حييهما، فحينما غادروه كان أحدهما لم يتجاوز السبعة أشهر، بينما الأكبر كان يبلغ من العمر عامين فقط، كما أنهما لا يتذكران حتى ملامح والدهما.
لكن لا منزل يأويها بالقامشلي ولا مالَ لديها لاستئجار غرفة، فما كان من خيار سوى السكن في خيمة على أطراف المدينة الصاخبة.
مشروع خاص
الخوف من الكلاب الشاردة التي دائماً ما كانت تحاول الدخول إلى الخيمة والشتاء الذي كان على الأبواب، دفع بالسيدة للانتقال إلى منزل صغير جداً، يفتقر لكل مقومات الحياة “ولكنه كان أفضل من الخيمة”.
تقول: “بالشتي كنا نضع جميع الصحون والطناجر لنحمي منزلنا من مياه الأمطار, كنت أخيط الأقمشة والبطانيات القديمة لأضعها على الشبابيك والأبواب”.
بدأت “العنيزي” تعيد تخطيط حياتها بما ينسجم مع الظرف الجديد، فعملت في عدة ورشات خياطة وبأجور “قليلة” في سبيل تأمين وجبة طعام لطفليها.
بعد تسع سنين من ادخار المال والتقنين الحاد في المصروف، تمكنت النازحة من شراء آلة خياطة واستئجار محل صغير بالقرب من دوار الصوامع بالقامشلي، لبدء مشرعها الخاص.
وبأسعار رمزية جداً تتناسب مع دخل زبائنها، تخيط النازحة ألبسة وحقائب، فضلاً عن تصليحات يطلبها البعض.
وتقول عن ذلك، “مررت بمرحلة الفقر والحرمان من كل شيء, أقدر ظروف الأهالي”.
ولضعف القدرة المالية، لم تتمكن النازحة من إرسال طفليها إلى المدرسة، حيث يعملان أيضاً لمساعدتها في المصروف، فالعائلة مطالبة بدفع 150 ألف ليرة شهرياً، أجرة المنزل ومحل الخياطة والاشتراك بكهرباء الأمبيرات، ناهيك عن احتياجاتهم الأساسية من طعام ولباس.
تضيف: “أحياناً نحرم حالنا من وجبة طعام لنأمن 150 ألف بالشهر”.
وحين سؤالها عن العودة لحلب، تتساءل، “كيف أعود لحلب ولم يبق لي شيء هناك، فقدت زوجي هناك وخسرت منزلي وكل ما أملكه”.
وتضيف: “فكرة العودة لحلب والبدء من نقطة الصفر قاسية جداً بالنسبة لي”، إذ يتحتم عليها, استئجار منزل ومحل للخياطة، “الوضع هناك لن يساعدني، هنا بالقامشلي تمكنت نوعاً ما من تدبير أموري، لدي محل خاص وزبائن ومنزل صغير يأوي أطفالي”.