حول فوز اليسار البرازيلي

في البرازيل تتحدد المكانة باللون والطبقة، في مجتمع ينقسم بين البيض (47%من السكان)، وهم في مكانة عليا منذ استقلال 1822، وبين الملونون (43%) والسود (7%) بالجهة الأخرى، وفي مجتمع ربع سكانه فقراء، و23% من سكان مدنه الرئيسية فقراء بعام 2021، بل يمكن أن نجد تطابقاً بين اللون والطبقة عندما يكون الملونون والسود هم أغلب الفقراء، ودخل الأسود ينخفض باثنين وأربعين بالمئة عن الأبيض في نفس الوظيفة وفق أرقام عام 2015.

وفي الدقة، فإن البرازيل ومع التاريخ الطويل للعبودية، عندما جلب لها عبر أربعة قرون ما يقارب أربعة ملايين إفريقي، قد كان إلغاء العبودية فيها عام 1888 ليس طريقاً إلى المساواة وإن كان لم يقد للعرقية، في مجتمع تزاوج فيه كثيراً البرتغاليون المستعمرون الذكور مع الإفريقيات مما أنتج نسبة كبيرة من الملونين، بل للتمييز على أساس اللون بين الفئات الثلاث، وبالذات في مجتمع سيطر فيه البيض عبر قرنين من عمر الاستقلال على السياسة والجيش والاقتصاد والإدارة.

في بلد مثل البرازيل يتحدد اليمين واليسار من خلال الخليط المركب للطبقة واللون، فاليمين جمهوره بين البيض ذوي الوضع الاقتصادي الغني أو ضمن الفئات الوسطى، كما أن قادة أحزابه ونخبه من هناك، وهذا ما نجده بشكل واضح بفترة حكم الرئيس جير بولسانارو بالأربع سنوات الماضية، وعند التحالف الحاكم الذي سنده، والمؤلف من حزب الرئيس، أي (حزب الجبهة الليبرالية) وهو حزب يؤمن بالليبرالية الاقتصادية والمحافظة الاجتماعية والشعبوية التي نجدها في كل أحزاب اليمين الجديد، وهو شبيه بالحزب الجمهوري الأميركي حيث بولسانارو من أشد المعجبين بالرئيس الأميركي السابق دونالد  ترامب، كما نجد في هذا التحالف (تكتل التقدميون) وهم أساساً من رجال الأعمال، و(تكتل الجمهوريون) وهو اتجاه مسيحي كاثوليكي محافظ يتركز بين البيض ويعادي الملونين ويمزج الليبرالية الاقتصادية مع اتجاه فيدرالي يكافح من أجل تخفيض صلاحيات سلطة المركز لصالح الولايات التي يبلغ عددها ستة وعشرون مع مقاطعة فيدرالية واحدة في نظام رئاسي فيدرالي شبيه كثيراً بالنظام في الولايات المتحدة الأميركية حيث الرئيس هو رئيس الوزراء ورئيس السلطة التنفيذية بصلاحيات واسعة مع وجود كونغرس بمجلسين للنواب والشيوخ.

بالمقابل هناك اليسار الذي فاز مرشحه لولا داسيلفا في انتخابات الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة على بولسانارو بيوم 30 من الشهر الماضي وبنسبة 50، 90% مقابل 49،10%، وكان دعم لولا قد أتى من حزبه، أي (حزب العمال) وهو ذو اتجاه اشتراكي يساري مع قاعدة قوية بين العمال والنقابات، ومن (الحزب الشيوعي في البرازيل) وهو حزب ذو اتجاه ماوي انشق عام 1962 عن الجناح الشيوعي الآخر الذي كان موالياً للسوفيات وقد ظل الماويون هم الاتجاه الشيوعي الأقوى بالبرازيل، وهذا لا نجده سوى في الهند ونيبال أيضاً، ومن ثم حافظ هذا الحزب وعزز قوته مع  تبنيه للماركسية الكلاسيكية وتخليه عن الماوية والستالينية في مؤتمر عام 1992 وهو يملك قاعدة صلبة اجتماعياً بين العمال والطلاب والمثقفين والفئات الفقيرة بالمدن الكبرى، أما الحزب الثالث في تحالف (برازيل الأمل) الذي أصعد لولا للرئاسة من جديد فهو (حزب الخضر)، وقد دعم (الحزب الاشتراكي)، ولكن من خارج هذا التحالف، ترشيح لولا داسيلفا ونائب الرئيس الذي نزل معه بالانتخابات هو من هذا الحزب، الذي هو يساري الاتجاه وليس من اتجاه الوسط كما في الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية، والظاهرة الاشتراكية البرازيلية يوجد مثيل مستمر منها في تشيلي منذ أيام الرئيس سلفادور أليندي الذي صعد عبر تحالف اشتراكي- شيوعي للرئاسة في عام 1970.

الملفت للنظر أن (الحركة الديمقراطية)، وهي تمثل اتجاه الوسط في مجتمع منقسم بحدة بين اليمين واليسار، قد جيرت أصواتها بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لمرشح اليسار، هذه الأصوات التي كانت بحدود 5% بالجولة الأولى.

طبعاً، الاقتصاد قد لعب دوراً أساسياً في إصعاد اليسار لأعلى قمة السلطة البرازيلية، مع التدهور الاقتصادي الذي تعيشه البرازيل الآن بعد موجة كورونا منذ عام 2020 ومع الأزمة الاقتصادية التي رافقت الحرب في أوكرانيا من ارتفاع أسعار المواد الغذائية وأسعار الطاقة، وما رافق هذه الأزمة الاقتصادية من ازدياد أعداد الفقراء وازدياد الفوارق الطبقية.

وفي البرازيل يستند اليسار إلى الطبقة العاملة والفلاحين والفئات الفقيرة وإلى الطلاب، وهو يتركز جغرافياً في الشمال والشمال الغربي، فيما الغنى والثروة عند الأغنياء والفئات الوسطى في مدينتي ساو باولو وريودي جانيرو وفي منطقة المثلث الجنوبي الحدودي مع باراغواي والأوروغواي حيث توجد معاقل اليمين بأطيافه المتعددة.

وهنا، كان أداء بولسانارو سيئاً في الاقتصاد، فيما يتذكر البرازيليون فترة رئاسة لولا داسيلفا بين عامي 2003 و2011 عندما حرر البرازيل من وضعية الدولة المثقلة بالديون للمصارف الدولية ونقل تسعة وعشرون مليون برازيلي من الفقر للفئات الوسطى ووصلت البرازيل لنمو اقتصادي بنسبة 7,5% بعام 2010 فيما كانت 1،9% بعام ما قبل توليه للرئاسة، وهو قد أدخل البرازيل إلى نادي العشرة الاقتصاديين الكبار في العالم.

أيضاً، لا يمكن لمعاني فوز لولا دا سيلفا أن تكون برازيلية محضة، في بلد هو الأكبر في قارة أميركية جنوبية تعتبرها واشنطن حديقتها الخلفية، وحيث في عام 2009 قد كانت برازيل داسيلفا هي المستضيفة لقمة ولادة مجموعة دول البريكس: روسيا والصين والهند والبرازيل، ثم انضمت للمجموعة جمهورية جنوب إفريقيا بالعام التالي، وهي المجموعة التي وضعت هدفها الرئيسي في “إقامة عالم متعدد الأقطاب”، وعودة لولا داسيلفا سيعزز (البريكس) في ظل تحالف صيني- روسي أصبح متمظهراً بقوة عبر عالم ما بعد الحرب الأوكرانية، هذا التحالف الذي يتحارب في أوكرانيا عبر الروس مع حلف الأطلسي بالوكالة الأوكرانية وتلتهب الأجواء بين فرعه الصيني وواشنطن في مضيق تايوان، وهو ما أنشأ سيولة في العلاقات الدولية أصبحت تتيح لدول مثل السعودية وتركيا انزياحات بعيداً عن واشنطن ولدولة مثل ايران أن تتصلب أكثر في المفاوضات النووية مع إدارة بايدن، وهو أمر لن تكون البرازيل في عهد لولا داسيلفا بعيدة عن استغلاله، وهو ما سيثير الكثير من المتاعب للأميركان.