حين تصبح ما تكره

ليس صدفة أن تصعد الفاشية ثانية في إيطاليا، أو أن تطرق “مارين لوبان” بوابات الشانزليزيه دون أن تيأس من أن تعود للانتخابات الرئاسية الفرنسية في أيامها القادمة، تماًما كما ليس صدفة أن يعود الروسي إلى زراعة القيصر في رأسه، بعد أن غادر الله قلبه، أما عن البولنديين فكان الرئيس البولندي أندريه دودا قد صرخ بأعلى صوته “المطالبة بحق المثليين أكثر تدميرًا من الشيوعية”، وكل هؤلاء استُنبتوا وصعدوا كما لو رد على السلطة مافوق الوطنية للاتحاد الأوروبي، مدفوعين بصعود قوى محافظة لتلعب دورًا سياسيًا ليس نتاجًا لـ”العقائد” كما قد يحلو، بل ربما ردًا على السياسات الاقتصادية الليبرالية المعولمة وقد همّشت الملايين من سكان الريف والمدن الصغيرة، ما دفع لاستدعاء التاريخ ثانية.

في بلد مثل إيطاليا استحضرت جورجيا ميلوني شعار الفاشيست القديم بـ”الدفاع عن الله والوطن والأسرة” وهو شعار موسوليني.

الطليان، ويوم بوغتوا بمحنة “كورونا”، ومن ثم أطلقوا شعار “ابقوا في بيوتكم”، لم يتسن لهم البقاء في البيوت، كان عليهم السير إلى المقابر لدفن موتاهم، فضحايا الوباء تجاوز أي بلد أوروبي مجاور.. حدث هذا دون أدنى التفاتة أوروبية إلى الجارة، وعضو الأسرة في الاتحاد الأوروبي، يومها صرّح الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، “آمل أن يفهم الجميع، قبل فوات الأوان، خطورة التهديد لأوروبا”، ثم “يشعر الكثيرون في روما، الآن، بأنه مالم يتم اتخاذ إجراءات جريئة من قبل دول شمال أوروبا، فإنهم يخاطرون بأن تدير إيطاليا ظهرها للمشروع الأوروبي إلى الأبد”، أعقب كلامه هذا استطلاع أجرته “تيسني” وهي هيئة بالغة الرصانة كان من نتائجه بأن 67 % من الطليان يعتقدون بأن انضمام بلادهم للاتحاد الأوروبي أمرًا مدمّرًا.

حتى كارلو كالينا، الزعيم الليبرالي الشاب، وكان قد كافح من أجل اتحاد أوروبا، بات محرجًا يوم تصله رسائل من أنصاره وهم يتساءلون:”لماذا نريد البقاء في الاتحاد الأوروبي؟”.

عمليًا ومابعد ضجيج “كورونا” عملت دول أوروبية على مداراة الموقف، بما يكفي لاحتواء الضرر، واشتغل أوروبيون على التقدم بمبادرات جرئية وايجابية وتجنبوا غرس أي شعور بالإذلال للبلدان التي تحتاج إلى مساعدة ومن بينها إيطاليا.

لكن المساعدات إياها لم تُجنّب لا ايطاليا ولا دول أوروبية عديدة من صعود اليمين فيها، فقد استحوذ اليمين على المشهد في بلدان أوروبية عدة خلال العقد الماضي، وربما أميركا وفرنسا، وفيهما طالما كان اليمين المتطرف قوة المعارضة الرئيسية، وهو في إسبانيا أيضًا يزداد ثقلًا، وفي السويد، أصبح الحزب الذي أسسه في الأصل نازيون جدد ومتطرفون يمينيون آخرون ثاني أكبر حزب في البرلمان، فضلًا عن وجود أحزاب أقصى اليمين في السلطة في المجر وبولندا.

ـ وماذا عن إسبانيا؟

الناخبون الإسبان عاقبوا الحكومة الاشتراكية برئاسة ثابيرو، ومشوا جنبًا إلى جنب وبالتزامن مع صعود اليمين الأوروبي، والمدهش أنهم حصدوا 186 مقعدًا من برلمان له 350. كان ذلك بعد مضي سنوات فاقة طاحنة اجتاحت إسبانيا وامتدت منذ 2004 ليكون الاشتراكيون ضحية أزمة مالية أطاحت بهم كما أطاحت بنظرائهم في اليونان وايطاليا.

ـ وقد أصبحوا مايكرهونه:

ـ والآن، وما بعد دخول مائة ألف جندي إلى أوكرانيا، ماهو حال الاتحاد الأوروبي؟

ماهو حاله مع فلاديمير بوتين الرجل الذي ولد من أب حذّاء وأم نهضت من الموت؟

بوتين لم يستفرد بصفة “الدكتاتور”، فهذه “المجر” وكذلك “بولندا”، الدولتان الأكثر توترًا من دول أوروبا الشرقية، يقودهما الآن رجلان يحاكيان أسلوب الحكم الذي وطّده بوتين، فهما يفرّغان المؤسسات الديمقراطية المستقلة، ويقمعان الحريات الأساسية لمواطنيهم، و”قد أصبحوا مايكرهون”.

الدولتان إياهما كانتا جزءًا من أوروبا الوسطى، أو حتى الغربية، على قدم المساواة مع النمسا، والآن يقود بولندا ظاهريًا الرئيس اندريه دودا، في حين يسيطر عليها واقعيًا رئيس الوزراء السابق ياروسلاف كاتشينسكي، وهو رئيس “حزب العدالة” اليمني المتطرف، والوضع ليس أفضل في المجر، حيث كان فيكتور أوربان يدفع بلاده نحو كل التوجهات المعادية لليبرالية منذ 2010 عندما بدأت فترته الثانية كرئيس وزراء لبلاده، فغيّر دستور البلاد وانتصر لحزبه “فيدس” اليمني المتطرف أيضًا.

والآن، ففضلاً عن أن روسيا ـ بوتين، باتت مهمة شاقة بالنسبة للغرب، ما الذي سيفعله الغرب مع مقلدي بوتين المناهضين للديمقراطية داخل صفوفه، في وقت يبدو فيه تقويض الوحدة الأوروبية ممكنًا؟.

الصورة الشائعة لليمين المتطرف تُختَصر بـ”حركة اجتماعية ترفض المساواة والتعددية، وبالتالي معادية للديمقراطية، منظماته تسعى إلى بناء مجتمع منظم هرميًا تتمتع فيه مجموعات معينة من الناس بسلطة سياسية واجتماعية واقتصادية أكثر من غيرها، فهو “سلطوي ورجعي”، وأحيانًا “تآمري وعنصري وقومي”، وسيضاف إلى ذلك “يستهدف الملونين والنساء والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية والأقليات الدينية والمهاجرين وغير المسيحيين”.

ـ هل يقتصر الأمر على هذا التعريف؟

بل هل يعود صعوده إلى هذه الصفات وقد التصقت به؟


الإيطالي روبرتو سافيانو، وهو كاتب إيطالي مرموق، أحال الأمر إلى بعد آخر ليرجعه إلى أن “اليسار فشل، تمامًا كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، في تقديم رؤى أو استراتيجيات موثوقة”، فصعود اليمين الإيطالي على سبيل المثال، لم يعد أمرًا يستدعي فتح الفم على الدهشة، وقراءة لما تعكسه ظهرة “دونالد ترامب”، وأنصاره قد تسهّل الأمر علينا.. جمهوريون من أنصار ترامب، ومن بينهم السيناتور تيد كروز غرّد محتفلاً ومثنيًا على صعود جورجيا ميلوني في إيطاليا.

لقد تغيّر الكثير، فخطباء الشرفات، لم يعد بوسعهم سدّ الثغرات التي صاحبت صعود اليسار، والمنظّرون الوازنون الذين رسموا للعالم طريق اليسار أخلوا أمكنتهم لبرامج “التوك شو” والخطابات الشعبوية السئمة، هذا عداك عن غياب رجال مُلهِمون من وزن ونستون تشرشل أو فرانكلين روزفلت أو شارل ديغول أو غيرهم من الشخصيات القادرة على إنتاج أفكار ملهمة تستهلكها الأمّة.

ـ رجال يشيعون الآمال بديلاً عن المخاوف.

العلم قرية صغيرة؟

ـ أي نعم.

ولكن لهذه القرية بيوت فارهة تقابلها بيوت رطبة.. احتكارات هائلة تطال النعمة والنقمة، وفوق هذا وذاك ثمة موديل واحد تصدّره القرية العالمية إياها وعليك أن تزدري “موديلك”، مكتفيًا بتقليد “موديل” الحياة الذي شاءه لك راسمو “العالم قرية واحدة”.

لهذا نهض اليمين الأوروبي، ومعه “الوطنيات الأوروبية”، ولهذا نهضت الحركات الراديكالية الإسلامية، ولهذا استعاد الطليان شعارهم الفاشي “الله، الوطن، العائلة”.

ـ من السذاجة التقليل من شأن الكسندر دوغين الفيلسوف الروسي الذي رفع قبضته بمواجهة “زبينغو بريجنسكي”، ليشتغل على:

ـ موديله.

موديله الروسي، لا الأوروبي ولا الأميركي ولا الياباني أو الصيني، دون نسيان أن فلاديمير بوتين يقرر وليس “دوغين”.

ـ العالم يتجه اليوم إلى أن “يُصبِح ما يكره”.

وقد لايكون بعيدًا ذاك اليوم، الذي ترتفع فيه أصوات تعلو وتعلو مرددة:

ـ هايل هتلر.

على أن تنطق نطقًا سليمًا، وكان الروائي ياروسلاف هاشيك، ذات يوم، قد أصدر روايته بالغة الروعة “الجندي شيفيك في الحرب العالمية”، أتعلمون لماذا لم ينل شيفيك ثقة قيادته؟

ـ لأنه كان يردد “هايل هتلر”.

لوكان محبًا حقيقة لهتلر، لما تردد ونطقها بمقطعين اثنين، كان عليه أن يقول:

ـ هايتلر.