القامشلي ـ نورث برس
ضاعفت الترجمة وما تزال، وتيرة الخوض في غمار الآخرين والبحث عن التَّائه في ثقافات أخرى مختلفة ومن ثم مواءمة الجديد مع الثقافة الأصليَّة، وهذا ما لمسناه في الثقافة العربية التي تواظب منذ عقود على الترجمة من اللغات العديدة المختلفة إلى اللغة العربيَّة، والنتائج كانت ملموسة في الثقافة العربية، فمن خلال الترجمة ظهرت مدارس شعريَّة عديدة لم تكن لها أن توجَد لولا الترجمة، كما أنّ أساليب سردية جديدة ظهرت في عالم الرواية والقصة العربية لم تكن لها أن تتوفر لولا توفّر الترجمة وتأثر المثقفين العرب بتلك الترجمات وتلك الأساليب.
الملاحظ في سياق الترجمة عالميَّاً أنَّها تنطوي على تنسيق ما وبحث عن الناقص في أي ثقافة ومن ثم محاولة سدّ الثغرة عبر الترجمة ونقلها إلى ثقافتها، فأي ثقافة لا على التعيين تحتاج إلى جرعات خارجيَّة لتتمكَّن من تطوير ذاتها، أو على الأقلّ أن تقلِّد ومن ثمّ يكون لها سماتها الخاصَّة بها، التقليد المقصود ها هنا، هو التقليد الإيجابي الذي يطوِّر ويعمل على ترسيخ الأجناس الأدبية وحيثيَّاتها.
شهدت مناطق شمال شرقي سوريا منذ سنوات نوعاً من هامش الحريَّة الذي يسمح لها بالعمل الثقافي بعد أن كان العمل منوطاً بالحكومة السورية متمثلّاً بالمراكز الثقافية النمطيَّة فقط لا غير، دون أن يُسمَح للكرديّ أن يقرأ أو يكتب أو يترجم من وعن لغته الأمّ، لكن تتغيَّر الأنساق مع مرور الزمن وتغيّر الظروف المحيطة، حيث رأينا تشكّل تجمَّعات ثقافية، ومؤسسات، وعوامل أخرى تشجّع على المضي في القراءة وترسيخ الثقافة، والعمل ولو بخجل في سياق الترجمة.
ولكن، السؤال الذي يدور في الأذهان، هل نجحت المساعي في تطوير مجال الترجمة، لما لهذا المجال من تأثير فاعل على عجلة الثقافة وتطور أنواع الكتابة؟، أو بمعنىً أوضح وبشكلٍ صريح، ما الذي تفعله الأجسام الثقافيَّة أو الاتحادات أو التجمّعات في تطوير عمل الترجمة وجعله مأسسَاً، أو على الأقلَّ توفير فرص العمل في الترجمة لذوي الخبرة؟.
قلَّة حيلة وانعدام خطط
يقول المترجم جوان تتر الذي ترجَم حتَّى الآن ما يقارب السبعة أعمال ما بين روايات وقصص قصيرة وشعر عن اللغة الكرديَّة إلى العربيَّة: “الترجمة فعل مؤسسَّاتي، ولا بدَّ أن يكون له مخططات سنويَّة، والعمل في شمال شرقي سوريا يفتقر إلى هذا النمط المؤسسَّاتي في العمل”.
ويُرجع “تتر” الأمر إلى أنَّ “العمل في الترجمة لم يصل في وعي من يعملون في شؤون الثقافة على الأقلّ، إلى مستوى المأسسَة بمعناها التخطيطي، فمن المعتاد في كل الدوُر المتخصصة بالترجمة أنَّ هناك نوع من وضع الجداول والبرامج لما سيتم العمل عليه خلال مدَّة زمنيَّة، ولكن هذا الأمر مفتقَد إليه في عمل الترجمة ضمن شمال شرقي سوريا”.
وفي السياق يشير “تتر” إلى موضوع بالغ الأهميَّة يتمحور حول “العناوين، لأنَّها العامل الأهمّ في نجاح وصول الترجمات، بحيث لا يجب أن يكون اختيار العناوين خاضعاً لعمليَّة اعتباطيَّة، بل لا بد من معرفة احتياجات الثقافة المجتمعيَّة، والعناوين التي تساهم في رفع سويَّة الثقافة والوعي، والدقة في اختيار الكتاب، سواء كانت النيَّة في ترجمته من الكردية إلى العربية أو العكس، أو حتَّى من باقي اللغات إلى الكردية”.
يشدِّد “تتر” على موضوع آخر وهو “التخصص، فلا بد أن يكون هناك تخصصات في الترجمة، فعلى سبيل المثال، لا يمكن لغير مطّلع على الفلسفة أن يترجم كتباً فلسفيَّة إلى الكردية أو العكس، وذلك لأن الترجمة عملية معقَّدة، وليست متعلِّقة بالمعرفة العالية في اللغتين اللتين يعمل فيهما المترجم، بل الأمر يتخطَّى أبعد وأعمق من ذلك بكثير، فقلَّة المعرفة بموضوع الكتاب المُترجَم يسبّب في النهاية ارتباكاً في لغة الترجمة وعدم نجاح العملية”.
ويُذكِّر المترجم بضرورة: “وضع عناوين تصبّ في سياق تطوير الثقافة الكردية، أو في مجال آخر نقل الثقافة الكردية إلى لغات أخرى كنوع من تعريف الآخر على الأدب الكردي بشكله العام، وهذا ما يتعطّش إليه القرَّاء غير الكرد، لأن عملية تعريف شعب بشعب آخر وبثقافته عبر الترجمة يعتبر موضوعاً بالغ الأهميَّة ويتحققّ بشكله العميق عبر الترجمة لوحدها”.
حيثيَّات الحصار المفروض
فيما يقول عبد الله شيخو مدير منشورات “نقش”، التي واظبت على فكرة الترجمة من اللغات المختلفة إلى الكردية، ومن الكرديَّة إلى العربية، وتكاد تكون المؤسسة الوحيدة في شمال شرقي سوريا التي تعمل في سياق الترجمة بطريقة مؤسسَّاتيَّة فعليَّة، “ترجمنا حتَّى الآن أكثر من 20 عنواناً مختلفاً مترجّماً للكرديَّة والعربيَّة، ومن لغات مختلفة كالإنجليزية والفرنسية والإيطاليَّة”.
ويشير “شيخو” إلى مجموعة من الصعوبات التي لخّصها بـ”انعدام توفر السوق الواسعة للنشر، ولا سيما أنَّنا في منطقة محاصرة تقريباً، وعلى إثر ذلك تنعدم الفرص في المشاركة بالمعارض العربية والدوليَّة، ناهيك عن انعدام فرص شحن الكتب وإرسالها، ولن نغفل الموضوع الشائك والمعقَّد وهو عمليات الطباعة وإدخال المنشورات إلى شمال شرقي سوريا، حيث أنَنا نضطر إلى طباعة منشوراتنا خارج المنطقة وما يترتّب على العملية من نفقات باهظة، وعدم وجود معابر رسميَّة، وهي سلسلة طويلة من الأسباب المرتبطة ببعضها البعض ومن غير الممكن فصلها”.
يكمل “شيخو” الحديث عن الصعوبات التي يبدو أنَّها أقوى من الإمكانيَّات المتاحة وتتغلَّب عليها قائلاً: “لا يوجد لدينا سوق تصريف، الأمر الذي يؤثر بطبيعة الحال على توسعة قائمة المنشورات ومضاعفة العناوين التي نعمل عليها، وهو من أصعب الظروف التي نواجهها”.
فيما يشير إلى موضوع بالغ الأهميَّة وهو “العثور على مترجمين محترفين”، حيث يقول “شيخو”: “نواجه صعوبة في الحصول على مترجمين محترفين ولا سيَّما في شق الترجمة عن اللغات الأجنبيَّة إلى الكردية كونها عملية جديدة ولا توجد هناك الخبرة والمّران الكافي، ولا توجد أكاديميَّات تُعنى بهذا الأمر بشكله العلميّ الحقيقيّ، وهي مشاكل لا يمكن حصرها فقط في شمال شرقي سوريا، وإنَّما في بقية المناطق الكرديَّة بتركيا والعراق وإيران، ولكن بشكل أعمق في شمال شرقي سوريا، فعمليَّة الترجمة تحتاج إلى محررين محترفين يعملون بالتوازي مع المترجَم للوصول بالعمل إلى شكله الأنسب”.
ويشير “شيخو” إلى إشكاليَّة “عدم وجود سوق فعليَّة للترجمة، أي لا يوجد لدينا مترجمين متفرّغين لعمل الترجمة، لأن أغلب المترجمين الذين عملنا معهم يعملون في مهن أخرى قد تكون بعيدة كل البعد عن الترجمة، لذا أحياناً حتى المترجم الجيد يحتاج إلى تخصيص وقت لعمله في مجال الترجمة لأنّ العائد المادي يكون قليلاً قياساً إلى المهنة الأصليَّة التي يمتهنها”.
وحديثاً عن الترجمة في شمال شرقي سوريا، يضيف شيخو: “الترجمة في هذه المنطقة تخطو خطواتها الأولى، ولا سيَّما أنّنا تحدثنا في البداية عن الصعوبات المتوافرة والأزمات التي تعيشها المنطقة، لذا في اعتقادي أن تأسيس مجال عام للترجمة في المنطقة يعتبر صعباً للغاية، ويحتاج الأمر إلى وقت طويل لتأسيس شيء نموذجيّ ومهني بشكل أكبر”.
محاولات فرديَّة تحرِّض المؤسسات الرسميَّة
يعتبر خوشمان قادو، الذي صدرت له مؤخَّراً عن مركز “ميزوبوتاميا” للترجمة ومنشورات شلير الترجمة الكردية للمجموعة الشعريَّة (كان نائماً حين قامت الثورة) للمصري عماد أبو صالح أنَّ “الترجمة تعتبر من الفنون الأكثر أهميَّة التي تساهم في تطوير وتنمية ثقافة المجتمعات بشكلٍ عام، فالترجمة تساهم في تقوية اللغة كمهمَّة أساسيَّة، وبالتالي تؤثر على التأسيس للغة قويَّة كنتيجة حتميَّة، وفي الوقت نفسه تؤسس وتخلق سياقات جديدة لإشكاليَّات اللغة، فترجمة أي عمل للغة الكردية يعتبر نقلة نوعيَّة للغة الكرديَّة نفسها واكتشاف سياقات لغوية جديدة، ولا سيَّما أنَ الكرديَّة لغة لم تصل حتَى الآن إلى سياق نموذجي ثابت متَّفَق عليه، لذا فإن اللغة الكرديَّة بحاجةٍ ماسَّة إلى الترجمات أكثر من حاجتها إلى أي شيء آخر”.
لكن يشير “قادو” إلى موضوع أن تكون الترجمة أمراً معمولاً عليه “في الإطار القومي، أو ما يطلق عليه الأمن القومي، وأن يكون من أساسيَّات أي مجتمع، وعلى الترجمة أن تكون في هذا المستوى، لذا وعليه، لا بدَّ أن تكون هناك مؤسسات قويَّة معنيَّة بالترجمة، وأن يكون القائمون عليها أفراداً مختصين فعليَّاً، لأننا نعيش الآن مرحلة تاريخيَّة، وهي توافر الفرصة للعمل”.
ولكن في الوقت نفسه “نلاحظ أنَّ المحاولات خجولة للغاية، وهي محاولات فردية تساهم في التأثير على بعض المؤسسات الرسميَّة وتحثّها على المضيّ، وأن يتوفر الدعم الكافي والملائم لإتمام العمليَّة وإنجاحها”.
يشير “قادو” إلى موضوع توسعة المواضيع فيما يخص النقل من باقي اللغات إلى الكرديَّة فيقول: “لا بدَّ وأن تتجه الأنظار في سياق الترجمة إلى أجناس ثقافية أخرى غير الأدب، لأنّ الأمر يساهم في تقوية اللغة الكرديَّة وتثبيت أصولها وقواعدها، كما أنَّ المؤسسات الرسمية يقع على عاتقها تقديم حوافز ماديّة للعاملين في حقول الترجمة التي تعتبر مهنة كباقي المهن”.
يبقى موضوع الترجمة موضوعاً عالقاً لأسباب عديدة تم ذكرها، لكن يجب أن يكون هناك بناء متفَّق عليه مؤسسَّاتيَّاً، وعلى المؤسسات الرسمية المنوط بها تنمية المجتمع ثقافيَّاً على علمٍ كامل بأنَّ الترجمة تعتبر فعلاً موازياً لتنمية الشخصيَّة ومن ثمَ بناء المجتمع بشكله الأنسب والأكثر جمالاً.