خلال مرحلة حكم حافظ الأسد تميزت العلاقات السورية التركية عموماً بالتوتر، يخمد حينا ويرتفع حينا آخر، لكنه لا يرتخي. الملفات الرئيسة التي كانت تسبب هذا التوتر هي أولاً: ملف المياه المشتركة بين الدولتين والتي ترفض تركيا اقتسامها وفق القانون الدولي، وثانياً: ملف استضافة سوريا للزعيم الكردي البارز عبد الله أوجلان.
من الجانب السوري كانت قضية المياه هي القضية الرئيسة، في حين كانت استضافة الزعيم الكردي عبد الله أوجلان وقضية لواء إسكندرون مجرد أوراق ضغط. أما بالنسبة لتركيا فكان وجود عبد الله اوجلان في سوريا هو القضية الرئيسة، في حين مثلت المياه أداتها للضغط.
وما إن خمدت حدة التوتر بين الدولتين نسبياً بعد زيارة توركوت اوزال رئيس وزراء تركيا في ذلك الحين إلى دمشق، وتوقيع اتفاق مع الجانب السوري لتسوية مؤقتة لملف المياه حتى عادت لترتفع بسبب وجود الزعيم الكردي أوجلان على الأراضي السورية الأمر الذي انتهى بمغادرته سوريا، وتوقيع ما بات يعرف باتفاقية أضنا التي توسطت فيها جامعة الدول العربية ومصر.
عندما استلم بشار الأسد السلطة في سوريا عمل على تحسين العلاقات مع تركيا، ونجح في ذلك، خصوصاً بعد استلام حزب العدالة والتنمية للحكم فيها. ساعده في ذلك تسوية أغلب الملفات العالقة بين الدولتين، أو التفاهم على كيفية إدارة الخلاف حول ما بقي عالقاً منها، أو ما يمكن أن يستجد.
لقد كان لتحسين العلاقات مع تركيا خصوصاً في الجانب الاقتصادي ثمن باهظ دفعه الاقتصاد السوري نتيجة إغراق الأسواق السورية بالسلع التركية المنافسة، مما تسبب بغلق العديد من المصانع السورية لأبوابها. عدا عن ذلك فقد ساهمت سوريا بدور رئيس في نشر الثقافة التركية وتعريف السوريين والعرب عموماً عليها من خلال دبلجة المسلسلات التركية التي صار لها جمهورها، إضافة إلى فتح الحدود بين الدولتين.
في عام 2011 عندما انتفض الشعب السوري ضد النظام مطالباً بالحرية والديمقراطية والكرامة دخلت العلاقات السورية التركية في مرحلة جديدة نوعياً. وبالنظر إلى العلاقات الممتازة بين النظام السوري وكل من قادة تركيا وقطر في ذلك الحين لم يكن يتصور قادة النظام أن هاتين الدولتين سوف تقودان عمليات التدخل في سوريا لإسقاطه. بصورة عامة اتسمت العلاقات السورية التركية ما بعد عام 2011 بالعداء، وكان هذا العداء شديداً حتى عام 2015 عندما تدخل الروس عسكرياً في سوريا لمنع سقوط النظام. خلال هذه الفترة سمحت تركيا بمرور أكثر من 171 ألف إرهابي من دول عديدة في العالم عبر أراضيها إلى سوريا، بحسب مصادر أميركية.
لقد شكل التدخل الروسي العسكري إلى جانب النظام تحولاً كبيراً في مجرى الصراع في سوريا وعليها، جعل القادة الأتراك يدركون أن مسألة إسقاط النظام لم تعد واردة، وأن مساعيهم لخلق مجال حيوي لتركيا في كل من سوريا والعراق بفضاء إسلامي فشلت، لذلك وافقوا على المشاركة فيما بات يعرف بمسار أستانا إلى جانب روسيا وإيران، والذي ساهم في إعادة بسط سيطرة النظام على مساحات كبيرة من سوريا.
خلال الفترة ما بعد عام 2019 بعد أن توقف القتال الواسع في سوريا، وصار جميع أطراف الصراع والتدخل في سوريا يدركون أن الحل السياسي هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة السورية، تحاول تركيا الاستفادة من منطقة نفوذها في إدلب وشمال حلب لحل قضيتين شائكتين يسببان لنظام أردوغان هواجس كثيرة وكبيرة: القضية الأولى هي القضية الكردية التي صارت رقماً صعباً في المعادلة الداخلية السورية، والقضية الثانية هي قضية اللاجئين السوريين في تركيا، والتي باتت تهدد بخسارة نظام أردوغان للانتخابات القادمة في عام 2023. ويدرك القادة الترك أن حل كلا القضيتين يحتاج إلى تفاهم مع النظام السوري، وهذا ما تتوسط فيه روسيا وتشجع عليه. بالنسبة للقضية الكردية في سوريا التي يفترض بها أن تكون قضية سورية داخلية حوّلها النظام الأردوغاني إلى قضية إقليمية، يزعم أنها تهدد أمنه القومي، وهو يرى في النظام السوري القدرة على حماية حدوده ضمن اتفاقية أضنة معدلة.
أما بالنسبة للقضية الثانية، أي قضية اللاجئين السوريين في تركيا، والتي تحولت إلى كابوس انتخابي لدى أردوغان فهو على ما يبدو قد نجح نسبياً في التفاهم مع روسيا على كيفية حلها، وفي كلتا القضيتين يحاول إرضاء النظام السوري. وبالفعل فإن تركيا هي التي تبادر إلى تحسين العلاقات مع النظام السوري، واتخذت العديد من الإجراءات في هذا السبيل، من قبيل التخلي عن المعارضة السورية لديها، والحد من الإعلام المعارض للنظام السوري الذي يبث من أراضيها، وحل لجنة متابعة الملف السوري في وزارة الخارجية التركية، وإمهال قادة الائتلاف السوري المعارض إلى نهاية العام لمغادرة الأراضي التركية. هذا وقد شهد الخطاب السياسي التركي تغيراً جذرياً تجاه النظام السوري والأزمة السورية. لقد صرح أردوغان على هامش مؤتمر براغ لدول الناتو، بأن سوريا تعرضت لمؤامرة كبيرة بهدف تدمير الدولة السورية، وأنه على استعداد للقاء الرئيس السوري في الوقت المناسب، ولا يكاد يمر يوم دون تصريح لمسؤول تركي حول تحسين العلاقات مع النظام السوري.
بدوره النظام السوري الذي يدرك حاجة تركيا لتحسين العلاقات معه يحاول استثمار هذه الحاجة إلى أقصى درجة، فيطالبها بالخروج من الأراضي السورية، والتخلي عن تأمين الغطاء العسكري والسياسي للمجموعات الإرهابية في شمال حلب، وفي محافظة إدلب، وأنه لن يقبل تعديل اتفاق أضنة. أما بالنسبة لملف القضية الكردية في سوريا فهو يعدها قضية داخلية، علماً أنه يدرك أهمية الدور التركي لحلها في موقف أقل ما يمكن توصيفه بالانتهازية السياسية، على الأقل لجهة الاستثمار فيه للحد من التدخل الأميركي في سوريا، وخصوصاً لجهة دعم قوات سوريا الديمقراطية وتأمين الغطاء السياسي لحماية منطقة نفوذهم. يدرك القادة الترك أن النظام السوري لا يمكن أن يقبل بمنح الكرد السوريين أي شكل لإدارة شؤونهم خارج ما يسمح به القانون 107 الخاص بالإدارات المحلية، ومن هذه الناحية فهم متفقون معه في ذلك.