ماذا لو نطقت منصات التواصل بلسان أثرياء العالم أو الحكومات؟

دمشق ـ نورث برس

ماذا لو نطقت هذه المنصات بلسان أثرياء العالم أو الحكومات؟، هذا السؤال يخرج عن دائرة السؤال الافتراضي، فهذا فعلاً ما يحدث اليوم. 

نشاهد في الأيام الأخيرة الجدل الدائر بعد إعلان إيلون ماسك، استحواذه على “تويتر” فقد كانت أول تغريداته هي أن “الطائر أصبح حراً”.

بعد أن دخل ماسك مقر الشركة، قام بحملة إقالات واسعة، وبدأ بحل مجلس إدارة الشركة وفصل الموظفة المسؤولة عن اتخاذ القرار بحظر حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي علق تويتر حسابه إثر أعمال الشغب التي اندلعت في الكونغرس الأميركي.

ينوي ماسك إعادة النظر بشأن الحسابات المحظورة، وقد يكون صديقه كاينه ويست من بين هذه الحسابات التي ينوي إعادتها، فهو يعتبر أن حرية الكلام يجب أن تكون للجميع. “الطائر قد يصبح لا حراً فحسب بل طائشاً”.

يُعرف عن ماسك ميوله إلى اليسار الليبرالي، كما أنه رجل أعمال ورائد تكنولوجيا لا يفوت مناسبة دون التذكير بأنه يهدف إلى إرسال البشر إلى المريخ.

السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا لو واجه إيلون ماسك عبر تويتر (شركته) حملة مناهضة لأفكاره بشتى أنواعها؟ هل سيبقى الطائر يغرد آنذاك؟.

أما زوكربيرغ مالك ميتا (فيسبوك سابقاً)، والذي لا يخفى على أحد انحياز منصته إلى الإسرائيليين مثلاً، فقد أشار إلى أن المنشورات التي تم وضع علامة عليها هي منشورات “خاطئة أو مضللة أو تندرج في فئات المحتوى الضار”.

وتشمل تلك المنشورات دولًا أجنبية تتدخل في “السياسة والإرهاب واستغلال الأطفال في المواد الإباحية وانتهاكًا صارخًا للملكية الفكرية”. 

لكنه ينفي وينكر وجود ما يدعى بالحظر دون سبب أو حسابات الظل المحظورة. ويؤكد أن عمليات الحظر ليست أيديولوجية. “لكن من سيصدق ذلك وإثبات نفيه لا يكلف سوى بضع دقائق!”. 

المثال الأكثر تجليّاً هو غوغل، فغوغل تقرر عبر منتجاتها، أن القدس عاصمة إسرائيل، كما أنها تحتفل رسميّاً بيوم 14 من كل أيار/ مايو، بذكرى تأسيس إسرائيل. لن يكون الأمر مستغرباً إن عرفنا أن سيرغي برين أحد مؤسسي غوغل، يتبرع بمبالغ مهولة لصالح توطين المهاجرين اليهود في إسرائيل. 

وبالاتجاه شرقاً، تطبق الصين نظام رقابة صارم على شبكة الإنترنت التي يستخدمها الصينيون، فللصينيين ما يخصهم في هذا المجال، ابتداءً من شبكة الإنترنت إلى منصات التواصل الاجتماعي، ولك أن تتوقع كيف يكون الأمر: طبعاً يُمنع انتقاد الحزب الحاكم أو الشيوعية مع وجود تهم جاهزة لكل من تسول له نفسه الجرأة على ذلك، وإن كان إلكترونيا.

يحيلنا ما سبق إلى أمر غاية في الخطورة: ماذا لو تحدثت منصات التواصل الاجتماعي بلسان أصحابها، وعملت على استقطاب المستخدمين وتوجيههم إلى وجهة واحدة فقط؟.

إذا ستتحول حينها هذه الشبكات إلى أدوات لاستقطاب تمكين الخلافات بين شرق العالم وغربه، لتنتقل الحرب الباردة إلى فضاءات أكثر اتساعاً، ولكنها رقمية.

كيف تحول فيسبوك إلى منصة تبث الكراهية؟

لنبدأ من آخر الأخبار، فلا شك أن قصة كانيه ويست، مع منصات التواصل الاجتماعي الأخيرة تلقى من الرواج، ما يجعل أي مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي يألفها.

فقد علقت تويتر وانستغرام حسابات نجم الراب الأميركي، وفقد قدرته على الدخول إليها إثر مناوشة بينه وبين ويست ديدي مغني الراب الأميركي أيضاً، حيث اتهم “ويست”، “ديدي” بالخضوع لسيطرة اليهود، ما أدى إلى تصنيف أقوال ويست بأنها أقوال عنصرية، ومعادية للسامية.

بدأت قصة “ويست” مع إنستغرام وتويتر، لكنه الآن يواجه حملة مقاطعة واسعة النطاق من شركات عديدة كان شريكاً، أو وجهاً إعلانيّاً لها، وخسائره فاقت الملياري دولار حتى اللحظة.

إلى بدايات الخطاب التحريضي على منصات التواصل الاجتماعي

في تصريح للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، قال إن منصات التواصل الاجتماعي “تقدم ميكروفوناً يذيع الكراهية من حول العالم”، وعلى الرغم من أن التصريح أتى في العام  2021، إلا أن قصة الخطاب التحريضي على منصات التواصل الاجتماعي ليست بالجديدة.

فبالعودة إلى بدايات منصات التواصل الاجتماعي نجد أن دخولها غير المشهد الإعلامي عالميّاً، أصبح للجميع رأي، لا يكلفه إطلاقه سوى أقل من دقيقة إذ يكفي النقر على “نشر”، أما ما بعد ذلك فلا أحد يدري.

فالقصص التي بدأت من منشور على منصات التواصل الاجتماعي لتتحول إلى قضايا رأي عام بحاجة أدوات تخزين سحابي لحصرها. لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي الرقيب والمحرك لأي حدث.

وبالعودة إلى بدايات الربيع العربي، لاقت إحدى النكات رواجاً وهي تقارن الطريقة التي ترك فيها رؤساء عرب سابقون الحكم، والطريقة التي أُزيح بها الرؤساء في بدايات الربيع  العربي، حيث كانت النتيجة لصالح “فيسبوك”. فقد لعب دوراً محوريّاً في ثورات الربيع العربي، ليصبح منصة تحرك الجماهير وتقربهم من الحدث.

وكمواطنة عربية يتطلع إلى تغيير ما هو قائم، لن نبخس دَور وسائل التواصل الاجتماعي حقها، فقد قدمت منصة لملايين حُرموا ولعقود من وسيلة تُسمع صوتهم، أو تكشف المستور مما عظم.

لكن مهلاً، فحمَّى القطيع كانت ظاهرة ويوميّاً على المنصات الشهيرة، فقد انتقلت الحروب الإثنية والطائفية والقومية وغيرها التي نحياها يوميّاً ومنذ 1400 عام أو أكثر إلى جدران العالم الأزرق، الذي زاد تأجيج هذه النيران في الكثير من الأحيان، فهناك الكثير من الصفحات التي ينبغي لفيسبوك (ميتا حاليّاً) وامتثالاً منها لسياستها أن تحظرها، فما معنى أن توجد صفحات تحمل اسم “أهل السنة والجماعة” أو “أكبر تجمع شيعي على فيسبوك”، ألا يعد هذا إقصاءً معنوناً!؟.

إخفاقات كبرى لفيسبوك ومكاييل عديدة.. ميانمار نموذجاً

على الرغم من دورها الإيجابي أحياناً كمنصات جعلت الإعلام الجماهيري سائداً وخارجاً عن سيطرة وسائل الإعلام الموجهة في أغلب الأحيان، إلا أن الجانب المظلم كان حالكاً كثقب أسود، فقد كانت إخفاقات فيسبوك في الحد من خطاب الكراهية قد وصلت حداً أصبحت فيه شريكاً ومحط اتهام بارتكاب جرائم حرب.

أتى الإخفاق الأكبر لفيسبوك والأكثر شهرة في ميانمار، حيث فشلت الشركة في الحد من خطاب الكراهية الذي كان ينشر معلومات مضللة وخطابات تحريضية تحرض على ارتكاب مجازر وإبادات جماعية بحق أقلية الروهينغا المسلمة في ميانمار، فالشركة التي تعتبر أي خطاب “يقلل من شأن الآخرين ويزيل عنهم الصفة الإنسانية ويحرض على أذيتهم” كانت مسرحاً وعلى مدار أكثر من عام ونصف، لمختلف الخطابات التحريضية ضد أقلية الروهينغا المسلمة.

وكانت هناك آلاف المنشورات على فيسبوك التي تشبه الروهينغا بـ”الكلاب”، أو تحرض على قتلهم (وإطعامهم للخنازير) وغير ذلك الكثير مما شكل مادة غنية تناولتها وكالة “رويترز” الإعلامية، وحاورت حولها مسؤولين من داخل الشركة.

مثال آخر فاضح، لكنه يعكس تحيّز الشركة لا إخفاقها فقط، يمكن تجربته من واقعنا، فمثلاً، يمكن لأي مستخدم لفيسبوك أن يشترك في صفحات إسرائيلية تنشر محتوى يحط من شأن الفلسطينيين والعرب عامة، من ناحية أخرى، نشاهد الكثير من المنشورات التي يتخلل مفرداتها نقط وشرطات وغيرها، طبعاً إن كانت هذه المنشورات من صفحات عربية وفيها ذكر لإسرائيل أو لغيرها من الأحداث الساخنة.

نأتي إلى دونالد ترامب، فعلى الرغم من سذاجة وغباء وتهور تصريحاته على تويتر، ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن تعليق حساباته إبان الانتخابات الأميركية لم يكن إلا وجهاً من أوجه استبداد شركات التكنولوجيا الكبرى التي تُصر، وعن قصد، أن تلعب دوراً في مسرح الأحداث العالمية، وتشير بعض الإحصائيات إلى أن جمهور ترامب كان أكبر فعلاً مما حرصت وسائل التواصل الاجتماعي على إشاعته.

أما بيلا حديد، عارضة الأزياء الأميركية التي نشرت في إحدى المرات على حسابها الرسمي على إنستغرام صورة قديمة لجواز سفر والدها مكتوب عليها بأن جنسيته “فلسطينية”، فقد قامت إنستغرام بعدها بحظر حساب العارضة الشهيرة، التي نجحت في استعادته بعد أن وجهت لإنستغرام رسالة مفادها “أين الخطأ في أن يكتب أحدهم أنه فلسطيني”.

لماذا تحولت فيسبوك وغيرها من المنصات إلى ساحات حرب؟

في إرشادات فيسبوك للحد من خطاب الكراهية الموجه للناشرين على المنصة نجد الآتي:

أمور يجب عدم القيام بها:

نشر محتوى يهاجم الأشخاص بشكل مباشر بناءً على المعايير المذكورة أدناه. ولا يُسمح للمؤسسات والأشخاص المعروفين بتكريس جهودهم إلى ترويج الكراهية ضد هذه المجموعات المحمية بالتواجد على فيسبوك.

•         العِرق

•         الإثنية

•         الأصل القومي

•         الانتماء الديني

•         التوجه الجنسي

•         الجنس أو النوع أو الهوية الجنسية

•         حالات العجز أو الأمراض الخطيرة

في حديث أنطونيو غوتيريش، يشير إلى أن سهولة الولوج إلى هذه المنصات واستخدامها ومشاركة ما يُنشر عليها، كلها عوامل تساهم في نشر خطاب الكراهية المتأجج في العديد من بقاع العالم، وفي الشهادة التي أدلى بها مارك زوكربيرغ أمام الكونغرس، قال إن الشركة تعمل على إزالة الكثير من المنشورات التي تُصنف بالإشكالية يوميّاً (قال إن النسبة تصل إلى 90%)، وأنها تعتمد تكنولوجيات ومعايير عالية لإزالة كل ما هو مسيء.

لكن كلام زوكربيرغ ليس بالدقيق أبداً، ويصفه أحد المراسلين الذين نجحوا في تقصي الأمر من داخل فيسبوك نفسها بـ(المخيب للآمال جداً)، فالنسبة لا تتجاوز الـ (4-5%) أما السبب فهو التالي:

يعود إخفاق فيسبوك في إزالة المنشورات التي تحرض على خطاب الكراهية لاستخدامها خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تتبع المنشورات بناءً على ورود عبارات أو أشكال أو صور أو ما شابه فيها.

أما فشل الخوارزميات في مكان كميانمار مثلاً، فيُعزى إلى فشل العامل البشري في تدريب الخوارزميات، فوفقاً لتقرير وكالة “رويترز” الإخبارية، لم يكن يعمل لصالح فيسبوك إبان أعمال العنف التي اندلعت في ميانمار سوى موظفين اثنين يتقنان اللغة البورمية، وكانت المنشورات باللغة البورمية، كما حدث خلل مريع في عمليات الترجمة الآلية للنصوص المكتوبة باللغة البورمية إلى الإنجليزية أثر على أداء الخوارزميات، وأيضاً على المراقبين البشر (إن وُجدوا) والذين كانوا يتحدثون الإنجليزية لا البورمية.

قد يبدو ذلك مبرراً للشركة إن كان الحديث يدور عن لغات تتحدثها أقليات مهمشة (من قبل عمالقة التكنولوجيا)، فالأمر لا ينطبق البتة على ما يحدث في ساحات الحرب الإلكترونية (الأوكرانية-الروسية) والتي توليها شركات التكنولوجيا أهمية عظمى.

لكن العربية مثلاً من اللغات الست الأكثر رواجاً على مستوى العالم، وهناك تقدم ملحوظ في معالجات اللغات الطبيعية التي تشغلها خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تتعامل مع اللهجات المحلية العربية، فما مبرر إخفاق الشركة في الحد من خطاب الكراهية في منطقة كالشرق الأوسط؟، وهل الشركة تعتبر معاداة السامية أمراً يفوق العداء السني-الشيعي المستفحل على صفحاتها أهمية؟، أم أنها لا تكترث فيه أصلاً!؟.

خوارزميات ولكن!

في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر من عام 2020، أعلنت تيمينت جيبيرو، موظفة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في غوغل أن الشركة أجبرتها على الاستقالة.

كانت “جيبيرو” قد قدمت ورقةً بحثية تناولت تدريب نماذج معالجات اللغات الطبيعية، وهي النماذج التي تستفيد منها الشركات بعد تدريبها بجمع كميات هائلة من البيانات عن الإنترنت.

مما جاء في الورقة البحثية أن هذه النماذج يمكن أن تصلها الخطابات العنصرية المنتشرة على الإنترنت، ما يمثل خطراً في وصول اللغة المسيئة والمتحيزة إلى النماذج.

ما يجدر ذكره أن نماذج المعالجة القائمة على الذكاء الاصطناعي تعتمد البيانات الضخمة في معالجتها، هذه البيانات يبقى للعامل البشري دور كبير في طريقة معالجتها. يعني ذلك أن التحيز البشري ينتقل بشكل لا شعوري أحياناً إلى الخوارزميات التي يدربها البشر، ولنا في فضيحة انحياز نماذج التوظيف في أمازون على أساس الجنس أسوة كبرى، فهذه النماذج التي أُدخلت إليها بيانات لموظفين ذكور يتمتعون بخصائص معينة، عملت على رفض النسبة العظمى من المتقدمات الإناث إلى الوظائف. أي لا فائدة من استخدام الخوارزميات في إزالة اللغة المسيئة، إن كان تدريبها قد تم باستخدام بيانات متحيزة أصلاً.

مما سبق نصل إلى نتيجة مفادها أن المشكلة بشقيها البشري والآلي قائمة، ولا حلول تبدو في الأفق القريب، فإما أن تولي شركات التكنولوجيا المزيد من الاهتمام إلى المناطق المهمشة في العالم والتي تكثر فيها الصراعات، سواء بتدخل بشري أو بتحسين الخوارزميات التي تعمل على تصفية الخطابات المسيئة، أو أن تتم إعادة النظر في بنيان هذا العالم الأزرق وآليات استخدامه من الأساس.

إعداد: نجوى إبراهيم