يوم ترتدي الجثة بزة “جنرال”

أنزلت ستارة الرئيس، ورفعت ستارة “الجنرال”، وفي كلتيهما لم يكن على المسرح لا رئيسًا ولا جنرالاً، هو “عجل من القش” وإذا ماشاء أحد أن يتساءل ما هو “عجل القش”؟، إنه الدمية التي تأخذ شكل عجل، يضعونه تحت بصر البقرة وقد فقدت عجلها الحقيقي لتدر الحليب لمالكيها.. هذا حال ميشال عون، وهذا حال المسرح الذي يتحرك فيه.

طموح الجنرال ليكون رئيسًا، ابتدأ منذ ثمانينات القرن الفائت، وكان كلفه هذا الطموح المنفى المرفه في باريس، مع الكثير من “كلام الاستقلال عن المحتل السوري”، ويوم عاد لبنان إلى لبنان، بعد أن حرّرت دماء رفيق الحريري البلد من “منتجع عنجر”، بما فيه من استرقاق للبنانيين، بنخبهم وهامش نخبهم وكادحيهم، ذهب للأقوى، والأقوى بطبيعة الحال من يملك السلاح، كما يملك مفاتيحه إلى العاصمة الإيرانية حيث “رضى المرشد من رضى الله”، والكل يعلم ان السيد حسن نصر الله هو الأبرز من بين فتيان المرشد الراحل خميني، مضافًا إلى عباس الموسوي وقاسم سليماني، وسواهما من طلائع “الثورة الإيرانية” التي لن تنتصر إذا ما اجتاحت العالم الإسلامي، وبذلك تحوّل الجنرال المتمرد على سطوة غازي كنعان، إلى واحد من ضواحي “حزب الله” وهذا لابد وسيشكل مظلة مسيحية للحزب الذي لابد ويحمي مظلته.

فعل الجنرال كل ما يجب أن يُفعل وما لا يجب حتى وصل إلى “بعبدا”، وفي بعبدا استبدل الدولة بالتيار، والتيار بالصهر، وبات جبران باسيل الحاكم، مطلق الصلاحية، في الدولة وفي السرير، فهو إن لم يستطع فوزًا يستطيع تعطيلاً، وأول مافعله الصهر هو إدارة كل أشكال الصراعات مع القوى المسيحية أولاً، ومن ثم مع بقية القوى اللبنانية بمن فيها القوى المتحالفة مع حزب الله وأولها حركة أمل، ومن بعدها “المردة” وسليمان فرنجية، سعيًا وراء وراثة الرئاسة بعد أن أغرق البلد بوزارة الطاقة حتى حمّل لبنان نصف ديونه عبر وزارته التي استأجرت سفينة ولم تبن محطة، والضالعون في الاستثمار يعلمون تمام العلم بأن مايقارب خمسين مليار دولار التي أنفقت على البواخر، كافية لتضيء لبنان دون خوف من عتمة قد تأتيه لاحقًا.

من الميليشيا إلى الدولة

فتح صراعًا مكشوفًا مع سمير جعجع، وهادن وليد جنبلاط، ووصف نبيه بري بـ “البلطجي”، وشاء تحالفه مع حزب الله أن يحصد كتلة برلمانية استثمر فيها لحسابه، ماجعلها دولة داخل الدولة، لتضاف إلى ناهبي الدولة من خصومه، والناهبون إياهم جاؤوا إلى الدولة من الميليشيا دون أن يغسلوا أيديهم من آثام الميليشيات، فتحوّلوا من تجارة الدماء إلى الإتجار بالرغيف، وحوّلوا البلد إلى بلد منهوب، سقفه توسل صندوق النقد الدولي، وحلمه في نهب ماوعد به لبنان من نفط، هذا إذا كان لبنان بلدًا نفطيًا كما يفترض توهج حلمهم، ومعه، ونعني جبران باسيل، ومعهم، ونعني أمراء الحرب الذين اختلفوا على كل شيء واتفقوا على معاداة جبران باسيل، بدأ الانهيار في لبنان، حتى وصل إلى نهب الودائع، وتعتيم البلد، أما الطبابة فبات الموت على بوابات المشافي هو القاعدة، ولم يستثن الخراب جامعة أو مدرسة، ومع باسيل وخصومه، وحروبهما، تحوّل البلد إلى خرابة، من لم يهجرها، مكث فيها بحكم الأمر الواقع كما لو قدر سيء لافرار منه.

جردة الحساب

انتهى عهد الجنرال، والدكان اللبناني بدأ يجرد حساباته، وفي جردة الحسابات لم يتبق سوى الخراب هنا، والخراب مضاعفًا هناك، واستمرارًا للخراب، بات البلد بلا رئيس ولا وزارة، وكل ماعلى البلد أن يفعله هو أن يدير نفسه كما لو جاء من عصر ماقبل الدولة الوطنية، مع الأخذ بالاعتبار، أن عصر اللادولة يعني فيما يعنيه إدارة الناس لحياتهم بالتوافق، أما في الحالة اللبنانية، فقد ورث اللبنانيون عنف الدولة، دون حصد مكاسب الدولة التي تعني “سيادة القانون” و”المواطنية”، بما سيفتح البوابات واسعة للفوضى كل الفوضى، والقيادات اللبنانية هي الأكثر تدريبًا على الاستثمار في الفوضى وقد جاءت في معظمها، إن لم نقل كلها من أزقة ودشم الحروب الأهلية التي علمتهم استخدام السلاح دون أن يطالوا “حكمة لعنة السلاح”، وهاهو البلد يتحوّل إلى زواريب لـ”الحرب المؤجلة” التي لاتحتاج لإضرام نيرانها سوى “بوسطة” جديدة، تضاهي “بوسطة عين الرمانة” التي أشعلت حرب السبعينيات، ليطفئها احتلالاً سوريًا استبدل الحرب بالجزمة االعسكرية، ونقل خبرته في قمع الشارع السوري إلى زواريب لبنان، فكان “السلام الواهم” القريب من “الحَبَل الكاذب”، وفاز به ومن ثم خرج من صفوفه ميليشيات المال والفساد وقد تدربوا في ميليشيات السلاح، وبـ”التوافق” فيما بين الناهبين.

الأم الرؤوم

الفرنسيون اشتغلوا ربما بشيء من “الإخلاص”، على لملمة الوضع اللبناني، خصوصًا ما بعد نهب المصارف وانفجار المرفأ، وكانت تحذيرات جان ايف لودريان صريحة للبنانيين، وقد رفع بمواجهة الفاسدين سلاح العقوبات، ظنًا من الفرنسيين بأن التلويح بالعقوبات قد يدفعهم إلى تشكيل حكومات كفؤة وجاهزة للعمل بمسؤولية وجدية، ولكن هذا لن يؤدي حتماً إلى أي نتيجة مع أن اللبنانيين كل اللبنانيين باتوا يدركون أنهم غارقون.

ميشال عون أنبأ مناصريه كما جمهور “الجمهورية” بأن البلد ذاهب إلى “جهنم”، أما نبيه برّي فقد ذكّرهم بغرق تايتانك، مشبهًا البلد بالسفينة الشهيرة، غير أنهما “بري وعون”، استمرا في عزف معزوفتهما الرديئة فيما السفينة تغرق وقد غاصت إلى القاع بأقصى درجات اللعنة وقد تتفتت إلى جليد أو رماد.

الفرنسيون وكذلك الرقطاء “دورثي شيا” السفيرة الأميركية في لبنان، وجهت مع مجموعة من الدول الأوروبية أعنف إنذار للحكومات اللبنانية وللرئاسة ضمنًا، بعد أن سمّتهم بـ”مجموعة من الفاسدين والسارقين”، فماذا كانت النتيجة؟
لا شيء على الإطلاق؛ كل مافي النتائج أن لَعنَ اللصوص اللصوص، فهذا ميشال عون وقد وصل الحكم قارعًا شعار محاربة الفساد وبعد أعوام من تسلمه الرئاسة، يقول لـ”باري ماتش الفرنسية”: إن الطبقة السياسية في لبنان هي التي تحمي الفاسدين، لأنها تستفيد من ذلك بطريقة مباشرة.

يقول ذلك فيما صهره يأتي على جدول عقوبات وزارة االخزانة الأميركية بتهمة “الفساد” ووزارة الخزانة الفاسدة إياها، تدقق مليًا يوم تطلق تهمة على الفاسدين، فعلى فسادها، تعرف بالعلم واليقين “الفاسد” ولا تطلق اتهاماتها للهواء.

كرر الفرنسيون نداءاتهم للبنانيين، وبلهجات قاسية وبعيدة حتى عن الدبلوماسية التي تحرص عليها وزراة كما الخارجية الفرنسية “ما لم تجرِ الإصلاحات بسرعة، وأنه في حال حصلت ثورة شعبية ثانية وقامت السلطة بقمعها، فإن فرنسا مع 54 دولة أوروبية و89 شركة دولية وعالمية، ستقاطع لبنان، وسيتم فرض حظر على مطار بيروت، وفرض عقوبات على لبنان، حتى تسقط الطبقة السياسية اللبنانية الفاسدة الحاكمة وغير الحاكمة ومجموعة الفاسدين”.

هواء بهواء

كلام في الهواء، فالفاسدون هم سدنة الدولة وورثاء الحرب بياقات بيضاء، وقد يكون “ديلر” الفاسدين، هو “حاكم مصرف لبنان”، رياض سلامة، الحاكم الذي لا يطاله حساب ولا عقاب، ومن آخر مستجداته الضلوع بشكل مباشر في الفساد وفي الأزمة الاقتصادية والمالية التي حلت على لبنان، إلا أن هذه الاتهامات الشفهية تحولت إلى وقائع ملموسة بعد أن فتح القضاء في أكثر من دولة أوروبية وفي لبنان أيضاً، ملفات عن ممتلكات سلامة وأمواله التي مصدرها الفساد والاختلاس وتبييض الأموال واستعمال أموال المصرف لغاياته الشخصية.

آخر مستجدات فساد رياض سلامة، كانت مداهمة الشرطة الفرنسية لعقارات تعود إليه في باريس، مع شريكته آنّا كوزاكوفا وشقيقه رجا.

تفيد المعلومات بأن عملية الدهم أظهرت أن مصرف لبنان استأجر، منذ سنوات، شقة، من والدة ابنة سلامة، بنحو نصف مليون دولار سنوياً، ليستخدمها مركزاً لعملياته في حالات الطوارئ، في الوقت عينه، يقود سلامة محاولة لمنع القضاء من التحقيق في قضية اختلاسه أموالاً من مصرف لبنان.

قوة من الشرطة الفرنسية يوم 21 تشرين الأول 2021، داهمت عدداً من الشقق السكنية والعقارات، غالبيتها في العاصمة الفرنسية، بأمر قضائي، المشترك بين هذه الشقق والعقارات، هو أن ملكيتها تعود إلى كل من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وصديقته آنّا كوزاكوفا (أوكرانية الجنسية، لكن الصحافة الفرنسية تقول بأنها والدة ابنة رياض سلامة) ورجا سلامة (شقيق الحاكم).

التحقيق المفتوح في سويسرا ولبنان وفرنسا ولوكسمبورغ وألمانيا وغيرها من الدول الآن، وقد ابتدأ منذ بداية العام الجاري، يتمحور حول اختلاس أكثر من 300 مليون دولار من مصرف لبنان، لصالح شركة تعود إلى الشقيقين سلامة، وبحسب الشبهات التي أوردها المدعي العام الفيدرالي السويسري في طلب المساعدة القضائية الذي أرسله إلى لبنان قبل أقل من عام، جرى تبييض تلك الأموال في مصارف سويسرية ولبنانية وأوروبية، قبل شراء عقارات في عدد من دول العالم، ومن بين هذه العقارات، تلك التي دهمتها الشرطة الفرنسية في الحادي والعشرين من تشرين الأول.

تلك واحدة من وقائع النهب االذي مارسه “سلامة”، وماذا كانت النتائج؟

ـ لاشئ.

وإذا كان ثمة شيء سيطال، فمن سيسأل نبيه بري وزوجته عن نهبهما للبنان؟

بل من سيسأل سمير جعجع من أين له؟

والأهم:

ـ من سيسأل حسن نصر الله، وبنوك القرض الحسن، ومن أين له؟

حين تأتي جردة الحساب، سيقول جبران باسيل: “أنا المسيحي القوي الذي تمكن من مضاهاة نبيه بري الشيعي في الفساد، وأنا المسيحي القوي الذي فرض على “حزب الله” أن يسعفه في حربه على الطائفة السنية وعلى سعد الحريري ومن ثم على نجيب ميقاتي.. هذا هو تماماً ما يجعل من باسيل قوياً، وما يعطيه فرصاً لتصدر غيره، وبهذا المعنى بات “صهر الرئيس، “الصهر المعطّل”.

واليوم، ما هي خيارات لبنان؟

إنها خيارات جبران باسيل، أعطوني وزراء معطِلون، لأعفيكم من وزارة مُعطّلة، والبلد يغرق ويغرق ويغرق.

إنه ليس تايتانك، لقد بات سفينة محمّلة بالجراذين.. بلد بوسع “ألبير كامو”، أن يعيد كتابته للـ”الطاعون” إذا حدق وخطف قدمه إلى لبنان.

فاسدون في مواجهة فاسدين، ورئيس خرج من قصر بعبدا جثة، ليرتدي على جسد الجثة بزة “جنرال”.