المصالحة بين أنقرة ودمشق تنتظر الانتخابات التركية

تراجعت موجة التفاؤل التي رافقت تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ووزير خارجيته، مولود تشاويش أوغلو، حول المصالحة مع دمشق، والاستعداد لطي صفحة القطيعة والصدام بين الجانبين، ومع هذا التراجع بدا مشهد العلاقة بينهما معقداً أكثر مما توقعه كثيرون، وأن التصريحات التركية بهذا الخصوص قد لا تعبر عن استراتيجية حقيقية للمصالحة بقدر ما تعبر عن رسائل سياسية لأهداف داخلية بالدرجة الأولى وخارجية بالدرجة الثانية، والأهم تناقض شروط الطرفين لفتح صفحة جديدة بينهما.

في كواليس السياسة التركية، ثمة من يتحدث عن أن أردوغان وعقب عودته من قمة طهران الثلاثية، وفشله في الحصول على موافقة طهران وموسكو لشن عملية عسكرية جديدة في شمالي سوريا، قدم مستشاروه نصيحة له، مفادها ضرورة التوجه بخطاب مباشر إلى دمشق لتحقيق جملة من الأهداف، أهمها سحب ورقة اللاجئين السوريين في تركيا من أيدي المعارضة التي أعلنت أنها ستحل هذا الملف فور وصولها إلى السلطة عبر التوجه إلى دمشق مباشرة، كذلك فإن مثل هذا الخطاب سيكون له وقع إيجابي كبير لدى موسكو، وترتيب العلاقات معها في الكثير من الملفات الساخنة، لاسيما في سوريا والقوقاز وليبيا وصفقات الغاز والسلاح، ويبدو أن أردوغان اقتنع بنصيحة مستشاريه، بل وصل الأمر به إلى حد الإعلان عن أنه كان يرغب بلقاء الرئيس السوري بشار الأسد فيما لو حضر الأخير قمة دول منظمة شنغهاي.

مضى أكثر من شهرين على إطلاق تركيا قطار المصالحة مع دمشق وإلى الآن لم نشهد معطيات أو خطوات ملموسة بهذا الخصوص، باستثناء الحديث عن زيارة قام بها رئيس الاستخبارات التركية حقي فيدان إلى دمشق منتصف الشهر الماضي، ولقائه نظيره السوري اللواء علي مملوك، دون أن يتسرب من هذه المحادثات شيء، وفي الأساس فإن لقاءات فيدان – مملوك ليست جديدة حيث عقدت لقاءات سابقة بينهما في أكثر من مكان، وهكذا أنخفض سقف التوقعات بمصالحة سريعة بين أنقرة ودمشق، لنشهد بعد ذلك تراجعاً في نبرة التصريحات التركية التي باتت تتحدث عن وجود محادثات أمنية فقط بينهما مع استبعاد المحادثات السياسية، والحديث عن حل سياسي للأزمة السورية وفقاً للقرار الدولي 2254 بعد أن كانت تتحدث عن المصالحة بين المعارضة والنظام، فيما دمشق تستمر في صمتها، وتتحدث بجملتين عبارة عن شرطين لإعادة العلاقة مع أنقرة، وهما، الانسحاب التركي من كامل الأراضي السورية، ووقف تركيا دعمها للجماعات المسلحة في الشمال السوري.

وتأتي هذه الشروط عكس ما تقول تركيا إنه لا بد من أن تؤدي هذه المصالحة إلى تحقيق أجندة لها، أهمها الحفاظ على نفوذها في الشمال السوري، وإعادة اللاجئين السوريين إلى مناطق محددة، وبما تحقق هذه الإعادة أهدافها في التغيير الديمغرافي في شمال شرقي سوريا، ودفع دمشق إلى تفاهمات معها بخصوص التحرك المشترك ضد قوات سوريا الديمقراطية ( قسد ) بغية التخلص من تجربة الإدارة الذاتية في شرقي الفرات، ومع أن الطرفين يتفقان نظرياً على الهدف الأخير إلا أنه من الواضح أن قطار المصالحة بينهما بات أمام جملة من الاستحقاقات والألغام والعوامل الطارئة، وهي جميعها تشكل تحديات قد لا تجعل من المصالحة ممكنة بينهما في المرحلة المقبلة، ولعل من أهم هذه العوامل:

  1. أن تركيا دخلت عملياً في الحملات الانتخابية استعداداً للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في الصيف المقبل، وهي انتخابات مصيرية لأردوغان وحزبه، وعليه باتت هذه الحملات أولوية لأردوغان أكثر من أي شيء آخر، وكان لافتاً زيارته إلى دياربكر قبل أيام قليلة، ومحاولته جس نبض الناخب الكردي، حيث تأكد له من العدد القليل للحضور مقارنة بالسابق، وعدم تفاعل الجمهور مع خطابه، مدى حاجته إلى ترتيب البيت الداخلي لحزبه، والبحث عن تحالفات جديدة، ومحاولة شق تحالف الأحزاب الستة، وربما حصول انعطافات في تحالفاته، بما في ذلك التوجه نحو الكرد تحت عنوان المصالحة الداخلية، حيث يدرك أردوغان أن الصوت الكردي في تركيا بات بمثابة صانع الرؤساء.
  2. إن أردوغان يدرك جيداً أن إنشغال روسيا بالحرب مع أوكرانيا واستنزافها هناك، وكذلك انشغال إيران بالمظاهرات الشعبية المستمرة بداخلها، يخففان الضغط عليه على المسار السوري، وأن ذلك يدفعه إلى عدم تقديم ما يمكن القول إنه تنازلات على مسار المصالحة مع دمشق، بل إلى التمسك بشروطه وأجندته لتحقيق مكاسب سياسية في الداخل التركي من خلال إظهار سياسته على أنها ثابتة ولم تتغير تجاه الأزمة السورية.        
  3. إن ما يشير إلى القناعة السابقة لدى أردوغان هو أن التحرك مؤخراً عبر هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) جاء تعبيراً عن سياسة تركية لإعادة ترتيب الوضع العسكري والتنظيمي في شمالي سوريا، إذ لا يمكن النظر إلى سيطرة النصرة على مناطق واسعة في ريف حلب بما في ذلك عفرين المحتلة بعيداً عن الخطط التركية، ويبدو أن المراد هنا هو تثمين ورقة النصرة في أي مفاوضات مقبلة مع الروس والحكومة السورية بخصوص شروطه للمصالحة مع دمشق.                                   

في الواقع، يعتقد أردوغان أنه بخطابه المباشر إلى دمشق نزع ورقة اللاجئين من أيدي المعارضة في الداخل، وأن ما تبقى هو في ميزان حسابات الربح والخسارة، وعليه ثمة من يرى أن ما جرى ليس سوى تكتيك فرضته الظروف الداخلية التركية أولاً، ومن ثم مقتضيات العلاقة مع موسكو ثانياً، وفي كل هذا يبدو قطار المصالحة بين أنقرة ودمشق ينتظر نتائج الانتخابات التركية، دون أن يعني ما سبق أننا لن نشهد محاولات لدفع هذا القطار إلى الأمام إذ اقتضت المصلحة ذلك، ويبدو أن دمشق نفسها تنتظر نتائج الانتخابات التركية، لتعرف هل ستتصالح مع تركيا أردوغان أم مع تركيا أحفاد أتاتورك؟.