مركز الرقة الثقافي.. نقطة مضيئة بتاريخ المدينة مسحتها الحرب

الرقة – نورث برس

طالما تفاخر سكان الرقة قبيل الحرب السورية، بمعالم مدينتهم، وعند الحديث عن المدينة وبنيانها المتنوع بين أثري وحديث، يبادر الكثير من شبانها، باقتحام الحديث والسؤال، “هل تعلم أن في الرقة أكبر مركز ثقافي في سوريا؟”.

وعلى مقربة من نهر الفرات، بُنيَّ أكبر مركز ثقافي في سوريا من ناحية التصميم والمساحة، شًيّد في ثمانينات القرن الماضي، ليشهد على نهوض الثقافة والفن في المدينة.

زرع إبراهيم أول ثمرات شغفه في مدرجات مسرح مركز الرقة الثقافي، بُعيد افتتاحه، رافق حينها أحد أقاربه للتسجيل في الفرق المسرحية مع بدايات تشكيلها.

يقول إبراهيم الخضر (67 عاماً)، ممثل ومخرج مسرحي، إن بدايته كانت في المركز الثقافي الذي دمرته الحرب، حيث مارس شغفه على خشبة المسرح في المركز.

نمت الموهبة لدى الرجل، وشارك في عدة مهرجانات دولية وعالمية في دمشق، باسم مركز الرقة الثقافي الذي استطاع احتواء نخبة من الفنانين والمثقفين آنذاك، ساعدت الإمكانات المتوفرة فيه على ذلك.

بقي إبراهيم يمارس شغفه في المركز الذي ضم العديد من المثقفين من مدينته ومدن سورية أخرى، ونُظمت فيه عدة مهرجانات مسرحية وأدبية، لسنوات طوال.

كومة من الركام

حين بدأت الحرب السورية، أجهضت الرقة كل أشكال الفن، إذ تتالت جهات عسكرية عدة في السيطرة عليها، وضيقوا على المثقفين وكبتوا الحرية الفكرية، الأمر الذي أدى لمغادرة غالبيتهم المدينة.

بعد خروج المدينة عن سيطرة القوات الحكومية بشكل كامل، قصفت طائراتها في السابع من آذار/ مارس 2013 المركز الثقافي، بعد أن حولته جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) حالياً، لمقر تابع لها وأغلقته بوجه سكان الرقة من الشباب والمثقفين، وسرقوا جميع محتوياته وجراء الغارة احترق جزء من المكتبة فيه.

وكان المركز أول بناء حكومي يتعرض لقصف من الطائرات السورية وتُدمر أجزاء كبيرة منه.

احتوى المركز الثقافي مكتبة ثرية، تمتد تواريخ إيداع بعض كتبها إلى الستينات من القرن الماضي، تضم أكثر من ستين ألف كتاب، كل ذلك أحرقه “متطرفون”، سوى بعض المؤلفات التي هربها مثقفين.

بعد نحو ثلاث سنوات، وفي الرابع من شباط/ فبراير 2016، دمرت طائرات التحالف المركز الثقافي، بعد أن بات مركزاً لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لتحوله الغارات لكومة من ركام.

قبل ذلك، استخدمه التنظيم كمحكمة، واستبدل العروض السينمائية بعروض لإعداماته يعرضها على شاشات داخل المركز، بينما استعاض بأصوات صراخ السجناء عن العروض المسرحية والغناء، وأرهب السكان باللون البرتقالي عوضاً عن أزياء الفنانين في عروضهم.

وكان “داعش” يستخدم القبو والطابق الأرضي كمحكمة تقابل المحاكم المدنية، وبحسب متابعين، محكمة تختص بأمور الزواج والطلاق، وتستخدم جزء من المركز كسجن.

حارب التنظيم منذ بداية سيطرته على الرقة الثقافة والمثقفين، وفرض عليهم الخضوع لـ”الدورات الشرعية”، وأحرق الكتب والمكتبات.

النهوض مجدداً

وعلى كرسيه وبينما يستند على عكازه بعد أن خانته صحته، يعود إبراهيم بذاكرته إلى سنوات عديدة حيث كان في أوج عطائه، ويقطع حنينه للماضي بعبارة “ألا ليت الشباب يعود يوماً”.

كان المركز الثقافي بمثابة منارة لشباب الرقة وحالة متفردة أسست لثورة المدينة “النامية” التي تعدت فيها نسبة الأمية 30%، حسب إحصائيات في تسعينات القرن الماضي، ومن خلاله عرفوا الفن والعلم.

وكان أحد أكبر المراكز الثقافية على مستوى إقليمي، وتبلغ مساحته مع الحديقة 10 آلاف متر مربع وضم البناء صالات للاستقبال وصالة للمطالعة والمكتبة والمسرح والإدارة وصالات للعرض السينمائي.

وبعد طرد “داعش” من الرقة على يد قوات سوريا الديمقراطية، اجتمع عدد من المثقفين لتفعيل تجمع لهم وأخذ دورهم في مواجهة الحرب التي رسخها التنظيم في أذهان سكان.

لكن بقيت المواجهة التي سعى لها البعض ناقصة في ظل هجرة الكثير من مثقفي الرقة واستقرارهم في الخارج، حيث بدأوا يتابعون حياتهم وأعمالهم، ورفض الكثير منهم العودة للرقة.

يتمنى رعد الفاضل، شاعر وعضو في إدارة مثقفي الرقة، أن يعود مثقفي الرقة أو أن يقوم شبابها بحضور الندوات الثقافية والفعاليات التي يقيمها اتحاد مثقفي الرقة.

ويضيف: “نعم تحررت الرقة من داعش، لكن ما زال هناك أثر لفكره، إلا أن المشكلة الأخطر التي نواجهها هي ابتعاد الفئة الشابة عن الكتب والثقافة بكافة أنواعها”.

ويبرر في الوقت ذاته، أن عدم الاهتمام في الثقافة من قبل سكان وشباب الرقة يعود لصعوبة الظروف المعيشية والبث عن أولويات العيش.

ورغم ذلك يدعو “الفاضل” للاهتمام في الثقافة والانخراط في مجالها، “الثقافة إرث الشعوب وذاكرتها، إذا لم نهتم بالثقافة، أي غزو ثقافي يأتينا سنضيع، لذا علينا أن نعمل لننقذ الأجيال المقبلة”.

فرق شاسع

في نيسان/ أبريل 2019، افتُتح المركز الثقافي الجديد ليكون بديلاً عن مراكز ثقافية أخرى، دمرها “داعش” خلال فترة سيطرته على المدينة، قبل طرده منها في تشرين الأول/ أكتوبر العام 2017، واختار مجلس الرقة المدني مكاناً له بالقرب من الجسر القديم.

لكن المركز الجديد، محدود المساحة، حيث يتألف من قاعة للمسرح في الطابق السفلي ومعرض رسم وفي الطابق العلوي المكتبة وبعض رفوفها فارغة وأما الكتب الموجود فجميعها “هبات”، من سكان ومثقفين كانوا قد خبأوها فترة سيطرة “داعش”.

يعلو الرفوف في المكتبة الغبار، إذ طالما اشتكى القائمون على المكتبة من قلة الزوار وطلبات إعارة الكتب، وأمام هذا الحال شكل المثقفون “فسحة حوار” وهي تجمع للمثقفين والمهتمين بالثقافة من أدب وشعر وفن وحوارات.

ويقول عبد الرحمن الأحمد، الرئيس المشارك للجنة اتحاد المثقفين في الرقة، إن “المدينة عبر تاريخها العريق تعرضت إلى التدمير، ولكنها عادت إلى الحياة من جديد وأجمل ممن كانت”.

إعداد: كلستان محمد – تحرير: زانا العلي