السيد “الكارزماتي”.. جوعى المرايا

“الزعيم الكارزماتي”، مصطلح هو الأكثر تداولاً في تأبيد علاقة الإذعان ما بين القائد وتابعيه، هذه الشخصية ستظهر في جانبها التدميري، وأكثر ما تظهر، تظهر في بلدان يحكمها فرد يحمل صفات لابد وتقترب من صفات الآلهة إن لم ينتزع من الآلهة ما يزيد عنها.. صفات من مثل: “عظمة الماريشال كيم يونغ إيل ترتبط بعظمة عائلته، أبوه كيم إيل سونغ، وأمه السيدة كيم يونغ سك هما العظيمان بغير نظير، اللذان أنتجتهما أمتنا”، وبعد هذا فهو “الزعيم الذي لايقهر”.

حين يأتي الكلام عن فيديل كاسترو، فهو يصف نفسه، ولا حاجة للاستعارة ممن يصفه فـ”ليس خطئي أنني لم أمت بعد.. وظيفتي هي الثورة، أنا ثوري، والثوريون لايتقاعدون”.

لمعمّر القذافي مالغيره من “الكارزماتيين” فهو “ملك ملوك أفريقيا” وهو “الزعيم” وهو “قائد الثورة الدائمة”، وهو “إن ربت على كتف فتاة فستختفي إلى الأبد”.

حين تصل إلى “الخميني”، فقد تخطاهم جميعًا، وقد بات “روح الله بن مصطفى بن أحمد الموسوي الخميني”، وهذا يعني أن انتزاعه يساوي انتزاع روح الله، أما عن خصمه اللدود صدّام حسين فهو “المناضل العظيم”، وقد اختفت من سيرته حقيقة أن “أمه لم تكن ترغب في رؤيته”، وأن “زوج أمه كان مسيئًا سيكولوجيًا وجسمانيًا إليه”، وأنه تربّى في حضن خاله صاحب شعار “ثلاثة على الله أن لايخلقهم: الفرس، واليهود والذباب”، وبهذا سيلتقي مع أودولف هتلر “الكارزماتي”، الذي خاطب شعبه “اتبعوني وسوف أهتم بأموركم”، ولم تخل خطابات خصمه جوزيف ستالين من مثل هذا وقد انتقل من “مدرسة الكهنوت المسيحي”، إلى “الكهنوت الماركسي”، ليتحوّل إلى أب الشعب.. الشعب كله، وهي صفة كانت ملازمة للراحل حافظ الأسد “الأب القائد”، فالأبوّة هنا ستحلّ محل “المقاتل الذي لايقهر، تلك الصفة االتي أطلقت على كيم يونغ إيل”.

ـ كارزماتيون متحاربون:

ما القاسم المشترك الذي يجمع هؤلاء الكارزماتتين؟

كارزماتيون متحاروبون :

ـ هتلر مقابل ستالين.

ـ صدّام مقابل حافظ.

ـ الخميني مقابل صدّام.

ومن تبقّى من “الكارزماتيين” فهم خصوم للعالم، حتى بات شرط وجودهم وخطابهم: “أنا موجود بدلالة خصمي”، وكان هذا حال فيديل كاسترو، الذي عاش ثقة لاتهتز بالذات، وقد قدم نفسه كمرشد وإله لأولئك الذين هم في حاجة إلى الإرشاد وتقديسه، وهؤلاء لابد سيكونون “الشعب”، وكان فيديل قد اقترح على شعبه استبدال المعدات الزراعية الميكانية بفرق من الثيران بعد أن انهارت علاقاته بأوروبا الشرقية التي انهارت بدورها.

القراءات المتصلة بالسيرة الشخصية لمجموع هؤلاء “الكارزماتيين”، والتي اشتغل عليها “النفسانيون”، كانت افتقاد الطفل لأمه منذ الطفولة المبكّرة، ولابد أن لـ”صبحة” الأم الإكتئابية دورًا حاسمًا في سيرة ابنها صدام حسين،  وكذا حال جوزيف ستالين، ابن الحذّاء الضعيف، والأم المكتئبة.

النفسانيون يقولون بأن “افتقاد الطفل، منذ الطفولة الباكرة، للتأكيد النرجسي يسبب له جرحاً نرجسياً، أي خصاء فعلياً وإذلالاً ما بعده إذلال، يعيده إلى حالة من العجز، سيكون تكرارها مؤذياً له”، سيضيفون: “غياب التأكيد النرجسي، ستكون عاقبته أن الطفل لن يعود قادراً على قبول الترضيات النرجسية، ولا على السعي وراءها على نحو سديد وناجع”.. هذا بعض مما يقوله النفساني “رونيه دُنيس”، في كتابه ” النرجسية” وسيضيف “العلاقة الباسمة مع وجه الأبوين، خاصة الأم، منذ الطفولة الباكره تقدم للطفل الحب والحنان والأمن.. هذا الحب هو الذي سيساعده على تحقيق “الوثبة”، أي الإفلات من كماشة المحن، التي قد يقع فيها في مجرى حياته، بلا عقد أو جروح، وتقيه من السقوط في الغيرة النرجسية، والثأر النرجسي، والسُعار النرجسي، والهذيان النرجسي، كمحاولات دفاعية لترميم ثقته الكسيرة بنفسه، التي هي مثل الزجاج كسرها لا يُجبر”.

ـ الخصاء النرجسي:

النرجسية “المخصية”، طالما جمعت تلك الكارزميات المدمِرة، فلو أفلح أدودلف هتلر ببيع واحدة من لوحاته المضطربة، ربما تحقق له بعض من النشوة التي تداري إخصاءه النرجسي، الإخصاء النرجسي هذا الذي لابد وسيكون متصلاً بالآخر، فالآخر هو الذي يحدد هويتك، ومنه تستمد قدرتك التدميرية:

ـ يدمرني فأدمّره.

جيرالد.م. بوست، وهو مؤسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسسي في الاستخبارات الأميركية، وهو المسؤول عن الملفات الشخصية لأنور السادات ومناحيم بيغن، كان قد استقى الكثير عن أحلام المجد ما بعد هذا الخصاء السيكولوجي لهؤلاء الكارزماتيين، مشدّداً على علاقة “القفل بالمفتاح”، بما يجعل الإخصاء النفسي، لايتوقف عند “الكارزماتي المخصي”، بل سيتجاوزه إلى جمهور مخصي بدوره، يعلن إخصاءه يوم يتراجع الأفراد إلى “حالة من تفويض القدرة الكلية لقائد ينقذهم”، ليكون “مسيحهم” المنتظر، ومن بعده لابد ويتحولون إلى كيانات متشظية وهزيلة، ليحل الكارزماتي محل الأب الذي يرى في جمهوره امتدادًا لذاته المعطوبة.. سيكون “الجمهور” في هذه الحالة هو الشخصية الجائعة للمرآة، والتي ترى نفسها في مرآة زعيمها، ولو لم يكن الأمر كذلك لما نُعِت هؤلاء الكارزماتيين بـ”الأب القائد”، وبالوسع استعادة جدران شوارع المدن السورية التي لاتخلو من “غرافيتي الأب القائد” دون استحضار أي من الرسومات التي توطد الرغبة في الانعتاق من الألوان الكالحة التي تتقاسمها الأبنية والمدارس الحكومية كما دوائر استخبارات النظام التي تشتغل على توطيد أقدام من رخام لهؤلاء الآباء، وقد أثبتت الأيام أن لهؤلاء أقدام من صلصال كان مصير صدّام حسين، وكذا معمر القذافي من أشد التعبيرات عنها، وإذا ما حصل ومسحت الذاكرة، فمن الصعب على أي ممحاة محو مشهد تمثال صدام حسين وهو ينهار تحت أسنان الجرافات الأميركية ووسط هتافات العراقيين الذين صفعوه بالأحذية في لحظة انعتاقهم من تلك “الأبوّة”.. أبوّته لهم.

ـ أعطني زلزالاً وخذ قائدًا:

الشخصية “الكارزماتية”، ونعني “الكارزماتية” المدمِرة، ستظهر على الدوام في مرحلة الزلازل، ومن بعده إلى صناعة الخصم “لسنا نحن بل هم”.. الـ”هم” هذه تعني العدو، فإذا لم يكن ثمة عدو وراء الجدار، فليس ثمة مبرر للقائد “الأب”.. ليس هذا في الحياة السياسية المباشرة التي تعني إدارة الدول فحسب، فمآزق “القفل والمفتاح”، يعني “الكارزماتي وجمهوره”، الجمهور “المخصي أيضًا”.. لو لم تكن هذه العلاقة ما بين “الكارزمي المخصي” وجمهوره “المخصي” أيضًا، لما أقدم سكان معبد غوايانا التابعون للموقر جيم جونس على الانتحار الجماعي ومعظمهم من حاملي الجنسية الأميركية بعد أن شربوا مرطب كوول ـ ايد المسموم بإرشاد من زعيمهم.. لقد كان هؤلاء في عين المأزق، ولهذا فقد فوّضوا شؤونهم لزعيمهم.. الزعيم وقد كسّر مراياهم، ولم يبق سوى مرآة يرون أنفسهم من خلالها.. إنها مرآة  الموقر جيم جونس.

ـ لعبة المرايا:

المرآة إياها حملت ملايين الإيرانيين على استقبال الخميني في مطار طهران هاتفة بحياته، وهي الجماهير التي لم تكن قد قرأت كتابًا له، وكل ماكان عليه هو أن يخطب بشعبه، ليقول:

ـ أميركا الشيطان الأكبر.

“الشيطان” إياه جمع “كارزماتيين” متحاربين، فهو “الشيطان” عند صدام “وطز بأميركا” عند القذافي، وهو الحرب التي لانهاية لها عند حافظ الأسد وقد تباهى بأنه مفجّر مثانة وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق وارين كريستوفر، وها نحن اليوم نصغي إلى خطابات حسن نصر الله وقد شاء أن يدمر البوارج الأميركية ما بعد تدمير “بيت العنكبوت” الذي يعني “إسرائيل”.

ـ القشرة الممتلئة بالغضب:

مجموع “الكارزماتيين” الوارد ذكرهم هنا، أثبتت الأيام أنهم مجرد قشرة ممتلئة بالصراخ والغضب، غير أنهما “الصراخ والغضب” هما المعبران الأساسيان للقبض على جمهور يصرخ افتتانًا بزعيمه، هذا الصراخ لابد ويأتي مع الخطابات المطولة للزعيم الكارزماتي، فقد طالت خطابات حافظ الأسد كما القذافي كما صدام وكذلك كما اودولف هتلر لساعات وساعات،  ولولا عطب في النطق وخيبات في سعة الرئات، لما توقف هؤلاء عن خطاباتهم، دون النظر إلى عصر التلفزة والبثوث المباشرة التي لاتتطلب حضور آلاف من الجمهور المخصي إلى ساحة عامة، فيما الزعيم يلقي خطابه من على شاشة كبيرة، ليحتل صفوف الاحتفال الأمامية، قيادات تعوزها “الكارزماتية” فتنضم إلى جمهور الهاتفين، المرددين:

ـ لبيك يانصر الله، وهم يقاطعون خطابه.

الجمهور إياه، وبالمواصفات نفسها مع اختلاف اللغات، هتف لهتلر، وكذا الحال لموسوليني، كذلك لصدام وحافظ والخميني، وهو جمهور سبق وهتف قبل ربع قرن للكارزمي الروماني نيكولاي تشاوشيسكو ثم مالبث أن خرج من خصائه واقتحم القصر الرئاسي في بوخارست ومن ثم إعدام الزعيم الكارزمي وزوجته إيلينا، وسط احتفال دم من الصعب نسيان تفاصيله ووقائعه.

ـ ما يجمع الكارزماتيون:

“كارزماتيون”، وصفوا بمانحي النور لمن هم في الظلام، واشتقوا من الألوهة مجموع اختصاصاتها، بما فيها انتزاع الحياة أو وهبها، ما جمعهم:

ـ مآزق أممهم، فالخلاص لايأتي سوى مابعد المأزق، ولو لم يكن الأمر كذلك لما تأجل قدوم “المهدي المنتظر” حتى خراب الكوكب، ولهذا لابد من الاستثمار بالخراب.. سيحدث ذلك بعد شد عصب الأمة باستحضار “العدو”، ولولا “صناعة العدو” لما بزغت شمس هتلر، فـ”إذا كنا نحن الألمان المختارين من الله، فإذن هم شعب الشيطان”.

لابد من استحضار الشيطان.. شيطان ما، ولكل من السادة الكارزماتيين شيطانه، واليوم بات “الشيطان” هو المفردة المتوافق عليها بدءًا من يوسف القرضاوي وأسامة بن لادن، وصولاً إلى وارثي الكارزميات المدمِرة، وكل ماعلينا لتعقّب هذا الشيطان، هو الإصغاء لخطابات علي خامنئي وارث روح الله ومجددها، ليكون “الدين” واحدًا من أدوات الكارزميين في سياقة جمهورهم، وهذا بشار الأسد يعظ جمهوره باستنكاره للإصلاح الديني، فالدين هو الذي يصلحنا لا العكس، ومن بعد هذا لالزوم للألماني مارتن لوثر، ولتذهب الحركات الإصلاحية إلى الجحيم.

ـ مآزقهم الفردية، وفجواتهم السيكولوجية والذين وصفهم جيرولد م. بوست بـ “الجائعين للمرآة”، هؤلاء الأفراد متشكلين من ذوات متورمة، وجائعون للمرايا، كما هم جائعون لجمهور يمكنه أن يمنحهم الاسمنت اللازم لتسكير فجواتهم الداخلية، ومن بعدها يقدمون أنفسهم كمرشدين وآلهة لأولئك الذين بحاجة إلى “آلهة”.

ـ هل هذا حال الكارزميات الطيبة؟

كل ما سبق يحكي عن “كارزميات مدمِرة”، طالما قادت شعوبها والعالم إلى الكارثة، فكاريزماتية أدولف هتلر تسببت بمقتل 2,5 بالمئة من إجمالي سكان الكوكب في ذلك الوقت.

ـ هل من لزوم للتذكير بضحايا جوزيف ستالين؟

المحفوظات المكشوف عنها ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، تقدّر أن أعداد من قُتلوا على يد نظام ستالين كانت 20 مليون أو أكثر. بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، أصبحت الأدلة من الأرشيف السوفيتي متاحة أيضًا، وتحتوي على سجلات رسمية لـ 799455 عملية إعدام (1921-1953)، حوالي 1.7 مليون حالة وفاة في معسكرات الكولاك، حوالي 390,000 وفاة خلال إعادة التوطين القسري للكولاك وما يصل إلى 400,000 حالة وفاة بين الأشخاص المرحلين قسريا إلى مستوطنات في الاتحاد السوفياتي خلال الأربعينيات ويصل المجموع إلى نحو 3.3 مليون ضحية مسجلة رسمياً في هذه الفئات أيضاً يتم شمل وفاة ما لا يقل عن 5.5 إلى 6.5 مليون شخص في مجاعة 1932-1933 ضحايا عصر ستالين.

نحكي عن الكارزميات المدمِرة، كارزميات راسخي النرجسية، وكان وصفهم جيرالد. م. بوست بـ”المستهلكون بالشك في ذاتهم وبمشاعر عدم الأهلية، والتي تدفعهم إلى مهمة لاتنتهي من أجل الحصول على اهتمام جمهور يهتف”.

اولئك الكارزماتيون الذين لايتوانون عن “قتل الشهود”، ولو لم يكن “موت الشاهد” ضرورة لترميم إخصائهم السيكولوجي لما أقدم “روح الله الخميني” على إعدام كل من رافقه من رفاق الأمس في رحلة عودته المظفّرة إلى طهران.. لو لم يكن الأمر كذلك لما كانت مجزرة “قاعة الخلد” التي ارتكبها صدام حسين بحق رفاقه، ولم يكن حال حافظ الأسد أرحم وقد اجتث مجموع رفاق أمسه من أولئك الذين يشهدون إخصاءه.

ـ هل سيكون هذا حال الـ”كارزميات الطيبة”؟

هل هذا حال المهاتما غاندي، مارتن لوثر كنغ، نيلسون مانديلا؟

لا.. هؤلاء لم يكونوا من جائعي المرايا، لم يبحثوا عن اتباع، ولم يلزموا مناصريهم بخياراتهم.

هؤلاء إذا ماخطبوا لايطيلون خطاباتهم.. لاتعصف بأصواتهم الكراهية والغضب.

هؤلاء ولدوا من نساء لم يعانين الكآبة والنفور من إرضاع أطفالهن وكراهيتهم.