ماذا يعني أن تتحول تركيا لمركز دولي للغاز

ما إن صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بإمكانية تحويل كل خطوط الغاز الروسية إلى تركيا لتصير مركزاً دولياً للغاز يزود أوروبا بما تحتاجه، حتى سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لزيارته والإعلان عن الاتفاق معه على ذلك.

ولم ينتظر أردوغان كثيرًا بل سارع للإيعاز لحكومته للعمل على تجهيز البنية التحتية الضرورية. بلا شك يدرك أردوغان ورجالاته المختصين أهمية أن تتحول تركيا إلى مركز دولي للغاز الروسي كمرحلة أولى سرعان ما تتوسع لتشمل غاز ونفط منطقة بحر قزوين، وربما غاز ونفط إيران والعراق وقطر وغيرها في مراحل لاحقة.

إن فكرة تحويل تركيا إلى مركز دولي للغاز على بساطتها، وإمكانية تنفيذها من الناحية الفنية بتكاليف مقبولة، مع ذلك فهي، في العمق، تنطوي على تعقيدات كثيرة سياسية واقتصادية واستراتيجية. من الناحية السياسية سوف تسحب من روسيا أهم سلاح اقتصادي ذي أبعاد سياسية واستراتيجية للتأثير المباشر على الدول الأوروبية. فتحويل تركيا لمركز دولي للغاز يجعل علاقة أوروبا بروسيا غير مباشرة فيما يتعلق بموارد الطاقة، في حين تصير علاقاتها بتركيا مباشرة، وتصير علاقة تركيا بروسيا مباشرة أيضا. بكلام آخر تصير تركيا وسيطاً لإمداد أوروبا بالغاز والنفط الروسيين فيحررها من الضغوط الروسية المباشرة عليها. بهذا المعنى فإن لأوروبا مصلحة حقيقية في الحصول على موارد الطاقة من تركيا، كما أن لروسيا مصلحة اقتصادية بأن يستمر تدفق الغاز والنفط الروسيين إلى الأسواق الأوروبية والعالمية. وبالموازنة بين تراجع التأثير السياسي المباشر لروسيا على أوروبا، والفوائد الاقتصادية الكبيرة التي سوف تجنيها ترجح كفة الجانب الاقتصادي. يحصل ذلك شريطة بقاء تركيا مركزاً دولياً للغاز والنفط الروسيين وليس لغيرهما.

يعد الوضع الراهن لإمداد أوروبا بموارد الطاقة الروسية هو الأكثر فائدة للطرفين، فروسيا تستفيد من الأسواق الأوروبية العطشى للطاقة لتصريف غازها ونفطها، مما يؤمن لها إلى جانب العائدات الاقتصادية المهمة نفوذاً سياسياً. بدورها أوروبا تستفيد من رخص الطاقة الروسية لجعل اقتصاداتها أكثر تنافسية، ولتحسين واقع الحياة لشعوبها. وإن إدراك الطرفين لأهمية هذه العلاقات بينهما في مجال الطاقة جعلهما يبنيان بنية تحتية، وشبكة معقدة كثيرة التشعب من الأنابيب لنقل الغاز والنفط الروسيين إلى جميع بلدان أوروبا. في هذه العلاقة المباشرة بين روسيا وأوروبا في مجال الطاقة كان المتضرر الأكبر هو أمريكا من جهتين: من الناحية الاقتصادية لخسارتها الأسواق الأوروبية، ومن الناحية السياسية لزيادة نفوذ روسيا في أوروبا. وللحد من ذلك وقفت الإدارات الأميركية المتعاقبة ضد هذه العلاقات وعملت على الحد منها إلى أقصى حد، لكنها كانت تفشل، رغم استخدامها لسلاح العقوبات الاقتصادية، والضغوطات الدبلوماسية والأمنية. غير أن اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية غير المعادلة كلها، وجعل أوروبا ترضخ للهيمنة الأميركية، وكان من الطبيعي أن يتم التركيز على موارد الطاقة من روسيا للحد منها ومن ثم للبحث عن بدائل لها في النهاية. وإذ تخسر روسيا وأوروبا من  تفجر الأزمة في أوكرانيا وتربح أميركا، يصير قريباً للمنطق ما تقول به بعض الدوائر الإعلامية والدبلوماسية من أن سيناريو توريط روسيا بالحرب على أوكرانيا قد أُعد على أعلى مستوى في الدوائر الأمنية والسياسية والاقتصادية الأميركية.

على الجانب التركي سوف تكون الفوائد الاقتصادية والسياسية عظيمة. من الناحية الاقتصادية سوف تكون عائدات مرور الغاز الروسي إلى أوروبا كبيرة، مما يحفز النمو الاقتصادي والتنمية فيها. وسوف تزداد أهمية ذلك في حال توجيه موارد الطاقة من دول بحر قزوين والعراق وإيران،  وحتى  من بعض دول الخليج العربي إليها. أما من الناحية السياسية فثمة وجهان للمسألة: من جهة سوف يزداد النفوذ الروسي في تركيا خصوصاً من الناحية السياسية، مما سوف يحتم عليها أن تغير سياساتها الإقليمية لتصير أكثر اعتدالاً، وأقل تدخلاً في شؤون الدول المجاورة، بل وتحسينها. من هذه الناحية بلا شك سوف تستفيد شعوب المنطقة وخصوصا الشعب السوري والشعب العراقي. من جانب آخر سوف تمتلك أوراق ضغط قوية على أوروبا لزيادة التعاون الاقتصادي والسياسي معها.

عندما تفجرت الأزمة السورية في عام 2011  قيل في حينه إن من أسباب تدخل قطر فيها إلى جانب قوى المعارضة، ودعمها الواسع للقوى المتطرفة لإسقاط النظام، عدم سماح قادته بمرور أنابيب الغاز القطرية في أراضيه إلى تركيا. وبالمناسبة عندما كنا نشتغل على مشروع استشراف مسارات التنمية في سوريا حتى عام 2025، تداول بعض الباحثين المشاركين في المشروع في عام 2008 خبراً يفيد بوجود عرض من الاتحاد الأوروبي لتحويل سوريا إلى مركز دولي لتوزيع المشتقات النفطية والغاز، بحيث تحول إليها أنابيب النفط والغاز من الجزيرة العربية والعراق وإيران ودول بحر قزوين، وتبنى فيها مصافي النفط ومعامل إسالة الغاز. علقت في حينه على الفكرة بأن سوريا في هذه الحالة لن تصلح للسكن، ويمكن بدلاً من ذلك إنشاء خطوط حديد سريعة تربط شاطئ المتوسط في سوريا بالعراق وإيران وباكستان وصولاً إلى الهند، وهذا، على ما يبدو، ما سوف تنفذه الصين ضمن مشروعها للحزام والطريق، لكن وصولاً إلى أراضيها عبر باكستان أو أفغانستان.