الافتراضات وراء تمدّد هيئة تحرير الشام

تنوس الأوضاع في عفرين وبقية المناطق التي تحتلها وتحكمها تركيا ووكلائها السوريين بين فرضيات واحتمالات عدّة فرضها التمدّد الأخير لهيئة تحرير الشام شمالاً، وبين كل تلك الفرضيات يبرز الصمت التركي مؤشّراً وعلامة واضحة على القبول بما يجري على الأرض، ومن الواضح أنه ثمة تخطيط تركيّ لتغيير الستاتيكو الذي رسمته وأرست ملامحه منذ عام 2018 باحتلالها عفرين، ولعل الاتفاقات التي جرت خلال اليومين الماضيين وأفضت إلى شكل من أشكال “السلام المسلّح” بين الهيئة والفيلق الثالث يعكس حقيقة أن الهيئة ثبّتت حضورها الفعلي في قلب المشهد وأن زمن ما سمّي بالجيش الوطني شارف على الانتهاء.

الافتراضات عديدة فيما خصّ تمدّد هيئة تحرير الشام، ويمكن ترجيح إحداها على الأخرى عند محاولة كشف الإبهام والغموض عن كل ما يجري بوتيرة متسارعة في الشمال السوري، فيما القاسم المشترك هو وقوف تركيا المتحكمة بهواء المناطق المحتلة ومصائر سكانها ومسلحيها موقفاً مريباً إزاء عملية التناحر الظاهرية.

أول تلك الافتراضات هو وجود مساعٍ تركية جدّية لإقامة كيان أكثر مركزيّة ومتمحوراً حول سلاح هيئة تحرير الشام يتحول في ما بعد إلى كيان منفصل عن سوريا بحكم الأمر الواقع؛ ولئن كانت تركيا لا تريد أن تظهر بصماتها في مسرح جريمة تعويم الهيئة، بما هي سليلة تنظيم القاعدة ومدرجة على قوائم الإرهاب الدولي، فإن محاولة تركيا العبث بمسرح الجريمة يبدو شديد الحذر وذلك عبر تصوير المسألة على أنها خلافات بين الفصائل أفضت في المحصلة إلى نفوذ الهيئة من شقوق تلك الخلافات وأنها نجحت بمفردها في استمالة فصائل واستعداء أخرى، ولعل الجانب المسرحي لهذا الافتراض يبرز من خلال التسليم السهل لمركز مدينة عفرين وبعض المعابر، والمصالحات شبه الفورية بين أطراف النزاع وتثبيت نقاط السيطرة مبدئياً، رغم أن أهم ما ميّز الفصائل هو استماتتها في التحكم بالمعابر بوصفها النسغ الذي يمدّها بالأموال والتحكّم في حركة التجارة وبالتالي سيطرتها على السكان الواقعين تحت قبضتها.

يؤمّن إقامة دويلة أمر واقع ممتدة من إدلب وحتى رأس العين (سرى كانيه) تمرير سياسات إعادة اللاجئين السوريين إلى الداخل السوري خارج مناطقهم الأصلية، وإقامة كيان عسكري عقائدي مركزيّ ومتماسك يتبع تركيا في حربها على كرد سوريا ويعزّز من تثبيت التغيير الديمغرافي، وبطبيعة الحال سيبقى هذا الكيان الطائفيّ مشدوداً إلى سياسات تركيا ورازحاً تحت وطأة العوز والحاجة إلى المعابر ونقاط خفض التصعيد، فضلاً عن أن الذهاب إلى هذا الخيار يرفع من مُشعر الخطر في دمشق وموسكو، بما يمثله من وسيلة ضغط تركية مثلى على دمشق للقبول بفكرة التفاوض التي أعرضت عنها وتجاهلتها.

والحال أن المضي في هذا المسعى يستلزم إدماج الفصائل في إهَاب آخر تتزعمه الهيئة وبمسمّى جديد، وحري بالقول إن إدماج الفصائل وهيئة تحرير الشام يصعّب خطوات تتبع الأخيرة بوصفها تنظيماً إرهابياً على ما يمثّله من تعمية وتشويش حقيقيين، في حين قد يطاول الإدماج الحكومة المؤقّتة والائتلاف، عبر إدماجهما مع حكومة الجولاني (الإنقاذ)، ولعل الإشارات التي يمكن ملاحظتها في هذا الشأن واضحة، فقد أضاف صمت الائتلاف إلى صمت الأتراك دليلاً على القبول بما يتم التخطيط له، إلى ذلك لا توجد خلافات جوهرية بين الهيئة والائتلاف، فقد سبق وانخرطت الأخيرة في الدفاع عن جبهة النصرة (الهيئة لاحقاً)، وقد يكون من المفيد التذكير بموقف الائتلاف على لسان أحد قياداته في معرض دفاعه عن النصرة حين كانت ذراع تنظيم القاعدة وقوله: “إنّ كل بندقية في مواجهة النظام هي في خدمة الثورة”.

الافتراض الثاني يتمثّل في توجيه رسائل لدمشق وموسكو مفادها إمكانية التخلّي عن الفصائل عبر تسليم رقابها لهيئة تحرير الشام وما يستتبعه ذلك من إطلاق يد الروس والنظام في عملية الإجهاز على الهيئة، ذلك أن الشرط الأوّلي للتفاوض الذي فرضته دمشق يتمثّل في توقّف أنقرة عن دعم مليشيات المعارضة، ولعل تركيا في إخلاء مسؤوليتها عن رعاية “الجيش الوطني” تتقدّم خطوة إضافية في اتجاه مصالحة النظام.

غير أن الجانب الإيديولوجي الذي يطبع السياسة التركية التي تسعى إلى الإبقاء على احتلالها ورغبتها الجدية في قضم الأراضي السورية وتثبيت روايتها التاريخية عن حقوقها في عفرين يضعف هذا الافتراض، ذلك أن الجانب الإيديولوجي يضغط على الدوام على الشرط السياسيّ عند تفسير سياسة تركيا الخارجية، وهو ما يعني أن عملية تسليم عفرين ومناطق في ريف حلب الشمالي للهيئة إنما يدخل في حسابات إعادة صياغة سياسة أكثر راديكالية تسعى إلى تجذير التقسيم في سوريا.

يمكن الذهاب إلى افتراض آخر سبق وأن جرى اختباره في سوريا، وهي عملية استبدال مناطق السيطرة، كانسحاب المسلحين من الغوطة الشرقية في مقابل حصول تركيا على عفرين، والحال أن الافتراض بتسليم إدلب أو أجزاء منها في مقابل منح عفرين ومناطق حدودية للهيئة تعزّزه فكرة حاجة تركيا لضوء أخضر روسيّ لشن عملية عسكرية جديدة ضد قوات سوريا الديمقراطية، لاسيما أن حاجة الحكومة التركية لحرب دعائية قبل موعد الانتخابات تتزايد وهو ما يعني تسريع وتيرة التفاهم مع روسيا.

لا يمكن الاعتقاد بأن هيئة تحرير الشام ارتجلت هذه الخطوة أو أنها استفادت من تناحر الفصائل العميلة لتركيا للنفوذ إلى مناطق مغطاة تركياً، والحال أن أصابع تركية ظاهرة على عملية الاستلام والتسليم رغم الإيحاء والتظاهر بأنها بعيدة عن ما يجري، لكن ومهما كان من أمر فإن تركيا تعي جيداً مخاطر دعم تنظيم موضوع على رأس قوائم الإرهاب الدولي، وتعي أن تعويم الهيئة وحدها دون إدماجها في كيان جديد رفقة بقية الفصائل، سيعني قابلية تحطيم هذا الكيان الجديد بيد روسيا أو الولايات المتحدة أو كلاهما، وبالتالي تصبح الفكرة الأقرب هي أن تسعى أنقرة إلى إخضاع هيئة تحرير الشام والجيش الوطني لعملية تجميل مكشوفة رغم الصعوبات التي تعترض هذه العملية.