هل ذهبتم إلى إسرائيل؟ نعم وإن بأسماء أخرى

وقد أُغرق لبنان بفاسديه، ما الذي تبقّى أمامه؟

ما تبقى البحث عن قارب نجاة ولو بمجداف مكسور، فالتداعيات التي أحاطت بلبنان، ذهبت بهذا البلد إلى ما هو أبعد من إفلاس المصارف، وانفجار الميناء، ومن ثم الانسداد شبه الكامل لمؤسسات الدولة كما لآفاق المستثمرين اللبنانيين بدءًا من قاطف التفاح وصولاً إلى منتج “الخلّ المنزلي”..  لم يبق بمواجهة الناس سوى الرحيل إذا ما أتيح، أو الإقامة في بلد يُطِل على النكبة ويتلافاها بتأجيل انفجارها.

وقعت الحرب الروسية الأوكرانية، لتكون المأزق العالمي الذي سيفتح للبنان نافذة، إن لم تكن واسعة، وهي وإن لم تكن واسعة، فهي تفتح ثغرة في هذا الانسداد، فمع الحرب احتاج العالم إلى الغاز المتوفر في البحر اللبناني والمسكوت عنه منذ بدأ الإنسان باكتشاف ما تخبئه المياه المالحة.

حقول غاز لبنانية متداخلة مع حقول الغاز الإسرائيلية، ما يعني أن للجيولوجيا أحكام تتخطى أحكام العقائد، فعقيدة ديمومة الاشتباك، تستلزم إما فضّها، وإما الاحتكام إليها بما يعني “الحرب”، وقد اختبر اللبنانيون الحروب بدءًا من سلسلة الحروب الأهلية، وهي أشد ضراوة من حروب الدول، وصولاً للحرب اللبنانية الإسرائيلية، ومن نتائجها على الدوام:

ـ نصف انتصار ما يعني نصف هزيمة، فلا لبنان انتصر، ولا لبنان رفع الرايات البيضاء وفتح الطريق للإسرائيليين ليستمتعوا بحمامات شمس “جونيه” أو “الأشرفية”.

كل ما أنتجته الحروب، المزيد من تأجيل الحياة لحساب حرب قد تقع، ومع “قد” هذه سلاح متعطّل، قد يأخذ طريقه إلى الداخل إذا ما وقعت الواقعة، أما أن يتحوّل إلى “حرب لبنانية إسرائيلية”، فلهذا معنى واحد:

ـ اللبنانيون المنقسمون في الثقافات والعقائد والمرجعيات الدولية، سيحوّلون سلاحًا لبنانيًا بمواجهة سلاح لبناني، فيما إسرائيل ستجلس على ضفة النهر لالتقاط جثث المتحاربين.

اللبنانيون اليوم، وتحت وطأة مآزقهم الداخلية وفي قمتها مآزق الاقتصاد، لابد وواجهوا استحقاقات دولية تضاف إلى استحقاقات النجاة من “المجاعة”، فالفرنسيون كما الأميركان يمارسون الضغط من أجل ترسيم الحدود البحرية اللبنانيةـ الإسرائيلية، والإيرانيون يقايضون لبنان بالعراق، كما يقايضون الصمت الدولي وتحديدًا الأوروبي ـ الأميركي عن انفجارات الشارع الإيراني والتخلي عنه، مقابل ارتخاء ذراعهم، ونعني حزب الله، وقبوله بالتسوية مع الإسرائيليين التي تعني فيما تعنيه “تطبيعًا اقتصاديًا” يلجأ إلى تسميات تلطفه بالنسبة للخارجين من عباءة “الشهادة أو الموت”، مع ضمانات أميركية بل وفرنسية، تحول دون تقليم  دور حزب الله في الداخل اللبناني وفي الصيغة اللبنانية، ربما إلى أجل بعيد، بما يجعل متكأه على الحرب، وقد أخذ دلالته من “الصراع مع الإسرائيليين”، متكأً بالوسع التنازل عنه، دون نسيان التفاهمات الإيرانية ـ الأميركية، والتي قد تفتح نوافذ لدور إيراني في هذا الشرق، بعد انتزاع الدور السعودي، وليس مصادفة أن يتعمّق التباعد السعودي ـ الأميركي، وتعبيراته أقلّه في انفتاح الرياض على موسكو، ما يعني جبهة باردة تنضمّ إلى الجبهات العالمية الساخنة، والحال ينطبق على مجموعة الدول الخليجية إزاء موقفها من الحرب الروسية الأوكرانية والذي لا يستجيب للرضى الأميركي، هذا إذا لم يمثل عصيانًا للحليف التاريخي لهذه المجموعة.

ـ الالتفاف على الخازوق

اللبنانيون بمعظم قياداتهم وأحزابهم راضون عن وقائع الترسيم البحري، وحدود الشقاقات فيما بينهم  لم تتخط تقنيات الترسيم لا جوهره، وجوهره هو “التطبيع الاقتصادي” ومع الالتفاف عليه لن يكون سوى “تطبيعًا” وإن بمسميات متباينة، وبورقتين وتوقيعين يخزّنان في أراشيف الأمم المتحدة، والمثل اللبناني يقول “الالتفاف على الخازوق، أسهل من الجلوس عليه”، هذا لدى الأحزاب والقوى التي تدرك انسداد خيار الحرب، هذه القوى التي  لن تخطو خطوة واسعة تجاه “السلام” مع إسرائيل، قبل أن يكتمل هذا السلام على الضفاف العربية الأخرى، فالتصريحات اللبنانية كانت على الدوام “لبنان آخر من يوقع سلام مع الإسرائيليين”، وكلهم على علم بأن جرافة التطبيع مع الإسرائيليين وإن تعطّلت، فلابد وتستكمل طريقها، هذا إذا تجاهلنا شعار “الكيان المؤقت”، الذي يحلو لفصائل الممانعة استخدامه، مع نسيان أنه ما من كيان في الجغرافيات التي شهدها تاريخ الإنسان، إلاّ وكان كيانًا مؤقتًا تعصف به المتغيرات فتتحوّل معه الإمبراطوريات إلى مزق دول، ابتداء بالإمبراطورية الرومانية وصولاً للإمبراطورية السوفييتية، وقد باتت الصواريخ الأوكرانية تقصف “جيشها الأحمر”.

ظهور الغاز بالنسبة للإسرائيليين وبتلك الكميات المأمولة، هو بمثابة “وعد إلهي”، وأمام هذا الوعد لن يجازفوا بحرب حتى ولو كان ربحها مضمونًا، فإعاقة “الترسيم” تعني احتمالات نشوبها، وإذا ما وقعت الحرب فالحد الأدنى من الخسائر هو تأجيل “الوعد الإلهي” ربما لفترة تتحوّل فيها طاقة الغاز إلى طاقة ثانوية وبالتالي فعليهم التعامل مع تهديدات الحرب تعاملاً جديًا.

سيتقاطع هذا مع رؤية الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يرى في التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل بأنه اختراق تاريخي، وسيتقاطع هذا مع الرؤية الإيرانية، فالإيرانيون يشتغلون على عدم الإسهام بمنح المرشح للرئاسة الأميركية دونالد ترامب هدايا انتخابية قبل الاستحقاق الرئاسي، يمكن أن يوظفها لصالحه أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن، ليضيف الإيرانيون انتصاراً جديداً للدبلوماسية الأميركية ما بعد التطبيع الإماراتي ـ الإسرائيلي، بما يجعل لبنان الدولة الجديدة الذاهبة إلى بدء التفاوض مع إسرائيل” .. يعني الخطوة الأولى نحو تطبيع قد يأتي متأخرًا ولكنه سيأتي.

ـ إسرائيل.. الثكنة، مزرعة الجحيم

بالنسبة إلى الإسرائيليين، فالخيار العسكري لم يعد نزهة على أرض الآخرين، فيما السلام بات المخرج من الأزمات التي تعصف بإسرائيل بمواجهة لغة التعبئة، والمطلعون على أحوال الإسرائيليين، يرون بالعين المجرّدة أن لغة “نصف الإسرائيليين تحت السلاح والنصف الآخر احتياطي سلاح”، جعل من إسرائيل ثكنة لا دولة، بل مزرعة للجحيم، على عكس ما أنبأهم آباءهم المؤسسين، فالوعد بات برسم العفاريت لا برسم آلهة إسرائيل، كل هذا وسط فراغ إسرائيلي من شخصيات كادت في لحظة ما أن تحمل صفة “العمالقة” بالنسبة للإسرائيليين، وهم من طراز إسحاق رابين أو شيمون بيريز، أو غولدامائير، ففي الساحة الإسرائيلية اليوم نفتالي بينيت،  القادم من شركة  “Cyota”، وهي شركة برمجيات لمكافحة الاحتيال، ولابد أنه يعلم تمام العلم، بأن الاحتيال على الله بـ “الوعد الإلهي”، قد انتهكته لغة البرمجيات، مما يعني أن “دولة إسرائيل”، لن تكون إذا ما كان “ديمومة الاشتباك”، وفي لبنان من يقابل نفتالي بينيت، والمنصتون لخطاب نبيه بري، القادم من حسينية الإمام موسى الصدر، لابد ويتوقفون عند لغة “الأستاذ”، وقد كرر فيما كرر مفردة “دولة إسرائيل”، ولن يغير من الأمر شيئًا حين يأتي من يقول إنها “زلّة لسان”.

ـ ما الذي ينتظر لبنان؟

أمام لبنان احتمالات، أولها أن تشتغل “توتال” الفرنسية على التنقيب والاستخراج، وثمة الكثير من التنبؤات التي تشير إلى كميات وافرة بل وضخمة من الغاز في بحر لبنان، فإذا ما كان ذلك فسيكون أمام لبنان بيع المنتج للشركات المستثمرة لقاء نسبة مئوية، ولن يتحقق مثل هذا الاحتمال دون الانخراط في منتدى الشرق الأوسط للغاز، الذي أنشئ في القاهرة من سبع دول، إسرائيل إحداها، وهذا هو الاحتمال الأقرب حيث تمتلك مصر معملي تسييل للغاز، وبالتالي فإن التفاهم مع إسرائيل والدخول معها في مشروع “إيست ميد” سيكون ممرًا إجباريًا للبنان.

قد يحدث هذا دون استبعاد إطار “تفاهم تقني” خارج أي إملاءات سياسية، ولن يكون لبنان وحده المحتمل استثماره في الخط المشار إليه، فقد بدأت الأخبار تتوالى حول أن تكون إسرائيل (مصباً) لغاز دول خليجية بعد السلام معها.

ـ هو تطبيع بـ “دلعوه”

سيكون “التطبيع”، وقد يحلو لرسام كاريكاتير وصفه على تويتر بـ”بدلعوه وبيسموه اتفاق ترسيم حدود”، وكعرب وقد ازداد تقهقرنا يومًا بعد يوم، تعلّمنا من كامب ديفيد أن مصر “أم الدنيا” كما يظن المصريون، لن يسمح لها بملامسة القنبلة النووية، كل المسموح، وتلك مشيئة أميركية أن نعمّر الكازينو لا أن نتغلغل في القوّة، فكيف الحال مع بلد من مثل لبنان؟.

أقصى ما يتمناه اللبنانيون اليوم، من الذين لا يعارضون التطبيع، هو تطبيع الطائفة مع الطائفة، والرأسماليات الهجينة مع احتياجات البلد من الاستثمار، ولعل الكثيرين منا لا يدرون أن ميثاق الدفاع العربي المشترك الذي يقضي، في مادته الأولى، بـ”إعداد الخطط العسكرية لمواجهة جميع الأخطار المتوقعة، أو أي اعتداء مسلح يمكن أن يقع على دولة، أو أكثر، من الدول المتعاقدة أو على قواتها، لعل هؤلاء يدرون أن سلاح العرب لم يكن سوى في خاصرة العرب، أما الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فلم يتعد يومًا إنتاج دكتاتوريات عسكرية، تختبر سلاحها بشعوبها، فيما الإسرائيليون لا يتكلفون عناء التقاط الجثث التي ترمى على ضفاف نهر الاقتتال العربي ـ العربي، بما يتجاوز داحس والغبراء.

ـ هناك كان السيف والمقلاع.. هنا راجمات الصواريخ والقنابل الغازية المسيلة للدماء.

كل ما سيتبقى هو نسيان بشار بن برد، ومعه نسيان:

كأن مثار النقع فوق رؤوسهم

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه.

طلب النسيان هذا يشمل أول من يشمل حزب الله، الأكثر ابتهاجًا بـ”النصر الإلهي” الثاني الذي يسمى ترسيم الحدود البحرية وإن هو إلاّ بوابة التطبيع مع إسرائيل.

سيكون صعبًا على حزب الله نزع جلبابه القديم والاعتراف بحقيقة كهذه، ذلك أن الاعتراف الصريح، المعلن، سيقود اللبنانيين إلى سؤال:

ـ وما هو مبرر بقاء سلاحك يا حزب الله؟

وقد لا يتوقف الأمر عند سؤال السلاح، قد يتوغل أكثر وصولاً لـ”القرض الحسن” والدولة داخل الدولة التي أسسها حزب الله.

الأسئلة ستتداعى، والزمن وحده كفيل بتفكيك الإجابات، وذات يوم كان حسن نصر الله قد قال، إنه إذا توقف جهاده من أجل تحرير فلسطين، كامل فلسطين، فسيعود إلى الصومعة، حسنًا فليهيئ نفسه ولسنا ندري أي صومعة سيختار، صومعة “النجف” أم صومعة “قُم” سيختار.