الموليّا… خناجر من فرح شهيّ

دير الزور ـ نورث برس

لا عجب أن تذخر دولة مثل سوريا، ذات الحضارات المختلفة الهائلة، بأشكال غنائية شفاهية كثيرة ومتعددة تتجاوز السياسات والحروب الراهنة. ثمة تراث غنائي شعبي يميّز كل منطقة من مناطقها عن الأخرى. حلب لها موشّحاتها وقدودها، وحمص امتازت بموالها السبعاوي، دمشق أم الأهازيج والأنغام، الهجيني في حوران، ولجبل العرب جنوباً أغنيته الشعبية الدافئة، أما الساحل السوري فامتاز بالصوت الجبلي الرخيم.

بينما تفردت منطقة الفرات، بفنّ “الموليّا”، التي تعد أبرز ألوان الشعر الغنائي في وادي “الفرات”، وتؤدى بلهجة أهل منطقتي دير الزور والرقة، المميزة ببحة صوت يغلب عليها الحزن.

أصل التسمية

تعود تسمية هذا النوع من الشعر حسب الروايات إما إلى نسبتها إلى أهل “واسط” في عهد الأمويين، أو أن أصل التسمية يعود إلى العُصابة التي يشد بها الرأس أو ما يعرف في وادي الفرات “الهباري”، أو بسبب غياب اللغة بعد تعرض منطقة “الفرات” إلى الغزو المغولي ودمارها، ثم تعرضها إلى الغزو العثماني ما جعل التعليم يقتصر على المصادر الدينية حيث أصبح الشعر غائباً ويقتصر على الحداء والأغاني الشعبية، الأمر الذي أدى إلى ابتكار “الموليّا”.

وهناك من يذهب للقول، بأن نشأتها تعود إلى العصر العباسي؛ إذ كانت هناك جارية تتمنع عن سيد القبيلة وعند قدومه إليها وجدها تبكي فضربها ظناً منه أنها كانت عاشقة لغيره.

فجاوبته بالعربية الفصحى: “مولاي ما للهوى أعني مواليا”، ومن كلمة “مواليا” أتت كتابة شعر “الموليّا”.

ويجمع الباحثون تقريباً على أن الانتشار الأول للموليّا في سوريا، كان في منطقة وادي الفرات، دير الزور والرقة، ومنها انتشرت إلى مناطق أخرى، ولكنها أخذت ألحاناً مغايرة أسرع من الموليّا الفراتية، فقد أوجد أصحابها مطالع خاصة بهم مثل:‏

هيهات يا بو زلف                            عيني يا موليا‏
يشرب حصانك هنا                           ولو عكّر الميه‏

تغنى الموليّا الفراتية بشكل إفرادي بمصاحبة آلات تراثية بسيطة كالزمارة والدف والربابة، وحالياً صارت تجيء وبصحبتها بعض الآلات الموسيقية الشرقية. كما تغنى الموليا في كافة المناسبات تقريباً، عدا الحزينة منها.‏

بنيتها اللغوية والكتّاب

تنسج الموليّا على البحر البسيط، وتتكون بنيتها اللغوية من شكلين: الأول، وهو الشكل التقليدي لبيت الموليّا، أي البيت الإفرادي القديم، مثل القول الرائع للشاعر محمود الذخيرة:

يعقوب حزنه انقضى                      حزني عليهم دوم
قـلبي شبه العنس                           أهفت ولدها روم
بكيت بحرقة قلب                           لمن الجفن ورّم
وأنت طبيب تعرف                        ما كان بي شيّه

ويكون الشاعر هنا، مخير بالروي الذي يريده في الأشطر الثلاثة الأولى، شريطة أن تكون موحدة، إلا أنه ملزم باستخدام الياء المشددة والهاء المتروكة في نهاية الشطر الرابع.

أما الثاني: ويسمى المِصْرَع بكسر الميم، وتسكين الصاد، وفتح الراء، فهو عبارة عن أبيات إفرادية متتالية، ثلاثة أشطر موحدة الروي، وشطر رابع مقفل بياء مشددة، وهاء متروكة، ثم ثلاثة أخرى موحدة الروي، وشطر رابع مقفل بياء مشددة، وهاء متروكة، وهكذا لتبدو القصيدة كالسلسلة المترابطة. يلتزم خلالها الشاعر في بيته الثاني بتكرار الكلمات الأولى من الشطر الرابع الذي يسبقه، وهكذا فالثالث والرابع حتى الختام، كقول الشاعر علي الكلاح:

“لي سار نجم السما                                 تيسر وساري
أمشي واخف بالجدم                                وآخذ باليساري
ليّ حبيبٍ مـــــــــضى                             اسمه باليساري
يــهلن دموعــــي على                             لـــــذة معانيـّـه

يهلن دموعي بقيت                                 أندب على حالي
سريت وأصبحت أنا                               بسعون وجبال
شكيت أمرٍ جرى                                   لمدبر الحالــي
يشيب راســي عــلى                              فراق الرداحيّة

ويلجأ الشعراء إلى “المِصْرَع”، الذي يعد بمثابة الشكل المطور للموليّا، عندما لا يتسع البيت الواحد لأفكارهم التي يريدون قولها. ومن أشهر الشعراء الذين أجادوا نظم الموليّا؛ محمد ومحمود الذخيرة، وزيد الهويدي وعلي الكلاح، بالإضافة إلى الشاعر فصيح الملا أحمد وخلف الفرج ومصطفى الحسن الجمالي.

أما أبرز الذين غنوها في الرقة، فهم: محمد الحسن وحسان الأحمد العكلة وأحمد الحبيب الملقب بـ”أبو فلوط”، وخلف الحسان. وغيرهم ممن سطروا الموليّا بأصواتهم العذبة الجميلة، والذين ما زالوا مراجع رئيسية للأجيال التي جاءت بعدهم.

وبحسب كتاب “شعراء الموليا في القرن العشرين” لصاحبه محمد الموسى الحومد، فإن أول جلسة للموليا في الرقة كانت عام 1898.

ففي ذلك العام، قدم الشاعر “ابن عوين الجبوري”، حاملاً معه حكاية حبه لـ “هدلة الحمد”، وباحثاً في الرقة عمن يصفها له بعد أن توفيت عن عمر 55 عاماً ولم يتزوجا.

مو حزن… لكن حزين

تلخص جملة النواب العظيم هذه، حياة الكائن الفراتي، ونمط حياته اليومية. إنّه شخص سريع التأثر والانفعال، بكّاء بطريقة شهيّة، مرهف، حزين دائماً؛ حزين على ما فات، حزين لما سيأتي، حزين على ما كان، حزين على ما يجب أن يكون، حزين وهو يضحك، أو يرقص، أو يمارس – دون قصد – الفرح.

كذلك. فإنَّ الفراتي باحث نهم عن الحزن، وترى ذلك في قائمة الموسيقا لديه، أغانيه المفضلة، الأسماء، الذكريات والعزاءات الفراتية المشتركة؛ لا أحد في ذلك المكان يحزن لوحده، الدمعات لا تتساقط فرادى، وتكاد لا تميز صاحب المصيبة لكثرة الباكين حوله.

هكذا…
وأثناء البحث عن مخرج للهروب قليلاً من الحزن، حزين أيضاً. وجد الفراتي في الموليّا مراده، فكتب وغنى أجمل القصائد، قصائد هي مزيج ما بين الفرح والبكاء، فقال وهو مهزوم:

العين جفت دمع                                 مذر وفها من الـدم
كدرني جور الهوى                              من صباي زاد الهم
حتسيت مر العمر                                جرعات دفلى وسم
سافن جناب الدليل                               واعن مســاميه

وهو فخور بعدم تمكن حالة البكاء منه وإن كان للحبيب من صفات ما كان له من صفات، قال:

“أبو جعود على                             المتنين ما هلهلن
يا دموع عيني على                         الوجنات ما هلهلن
ياموفج الخير يا                             هب الريح مهلهلن
بلكي بتوافيجكم                             تعرض لي الحموليّـه

ومع أن ذرف الدموع، أو مجرد الحديث عنها أمر في الحالتين قاس، كانت القصائد كالبلسم الشافي للكثير من الأحزان المسيطرة على قلب الشاعر، أو المستمع إليه، فلطالما نسي أحدنا همومه ولواعجه بعد جلسة موليّا طويلة تتحدث عن الهموم أيضاً، ليؤكد قول الأطباء أن الدموع تخفف الألم وتنقي الجسد من بعض السموم التي أرساها الحزن فيه.

السر في اللهجة

يكمن سرّ نجاح الموليّا واجتياحها لمنطقة وادي الفرات خصوصاً في قوة الكلمات وجزالتها، إضافة لكونها كُتِبت باللهجة العامية والتي يصعب على غير سكان الفرات فهم بعض كلماتها.

وتتميز الموليّا الفراتية بالصدق والبساطة وسهولة الكلمات والإيجاز في التعبير، بالإضافة إلى التنويع والعفوية ووحدة الموضوع، وأغلب مواضيعها؛ الغزل المعبّر عن الحب الإنساني، وتتناول أحياناً العديد من المواضيع المختلفة كالعشق والهيام، وأحياناً تتحدث عن شجاعة الثوار في مقاومتهم للعثمانيين أولاً ومن ثمّة الاحتلال الفرنسي.

كما يُعتبر مجتمع منطقة وادي الفرات مجتمعاً ريفياً، يتميز بقدرته على الحفاظ على تراثه القديم شأنه في ذلك شأن جميع المجتمعات الريفية. وقد تُغنى الموليّا في بعض المناطق السورية كحمص وحماة، وإنما تقليداً حديثاً للون الغنائي الفراتي وليس لوناً أصيلاً مثلهم.

العجيلي أيضاً لمن لا يعرف ذلك

مثلما أبدع مطربون كثر في دندنة الموليّا وغناءها، والكثير من الشعراء في كتابتها وتدوين قصصهم وأخبارهم من خلال أبياتها. كان للأديب العظيم “د. عبدالسلام العجيلي”، وهذا ما لا يعلمه الكثيرين عنه، عدة أبيات طريفة ومشهورة عند أبناء الرقة في الموليّا.

يذكر الباحث “محمد الحومد” في كتابه “شعراء المولية في القرن العشرين”، أن العجيلي قد أخبره أنه نظم العديد من القصائد التي تنتمي لهذا اللون، ثم أملى عليه قصيدة “موليّا” كان قد نظمها عام 1943م، عندما كان طالباً في كلية الطب في العاصمة دمشق، وتقول الموليّا:

أكتب وادزْ بالورق                             للمركز الغربي
أشكي لكم يا رَبع                               من تَجرة الحَبِّ
من بعد دَرْس العلم                             بالشَّامْ والطبِّ
صرنا بمركز “حَوَسْ”                        كتَّاب ميريَّه

أيضاً، بعد هذا التاريخ بفترة:

عَذَّال يندهْ مَدَدْ                                     وينك يا عمي حسين
عالدَّرب جَتْ تْهَدرْ                               سيــارة الكبتين
عَلْواهْ بمـركز حَوَس                             يبكَـالنا سنتين
نملـي جيوبنا ورق                               ليـرات سوريـة

وأيضاً:

“صرنا بـ سوس وغَرَبْ                         بعد البساتينِ
مـاكول خبزه العربْ                             ملكَوك بالطيـنِ
وفـــراشنا شَلْ تبن                                 بعد البطاطينِ
علـى الهرَسْ السّمر                               وتكَول جرجيّه

والكثير من القصائد الارتجالية التي يتسم أكثرها بطابع الخصوصية. الأمر الذي منع الأديب العجيلي من جمعها ضمن ديوان ونشرها.

النكسات المتتالية والبعث

دخلت الموليّا بشكل خاص، والشعر الشعبي بشكل عام في حالة سكون مخيفة، خلال فترة سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الرقة، وذلك خوفاً من ملاحقة عناصر التنظيم لكل المغنيين والشعراء في المدينة.

وابتعد في ذلك الوقت أغلب الشعراء والمغنيين والمهتمين بالثقافة والفنون عن اهتماماتهم المحظورة، من قبل “داعش” وأخواتها.

كما أن الحرب السورية، وما تتعرض له المنطقة من مشاكل عديدة وأزمات، إلى جانب تأثر الموليّا كغيرها من الفنون الشعبية بالألوان الغنائية (الشرقية ـ الغربية) المتواجدة حالياً. أدت إلى تراجع دورها وقلة الاهتمام بها.

لتعود، في الفترة الأخيرة، من جديد إلى البروز على يد بعض المبادرات الفردية، كزيد محمد الحسن وعبدالله حسين الحسن، أبناء محمد الحسن وشقيقه حسين الحسن، المتوفيان، وبعض الجهات المعنية بإحياء التراث الفراتي في المنطقة من جديد.

إعداد: علي العجيل