الرقة ـ نورث برس
حرصت ناديا، على سرد أهم الحكايات والقصص المتعلقة بماضي مدينتها على مسامع أبناءها كل يوم، وذلك منذ أن اضطرت وزوجها إلى مغادرة الرقة بعد سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عليها، والعودة مؤخراً إليها.
ناديا محمد، من سكان مدينة الرقة، معلمة ووالدة لثلاثة أطفال، تقول إن الحظ لم يحالف أطفالها في رؤية مدينتهم أيام عزّها التي لا تشبهها اليوم، على حسب قولها، ولا التمتع بمختلف أنواع خيراتها الطبيعية والثقافية والموسيقية.
ومنذ سنوات، وتحديداً بعد زوال التنظيم ومخلفاته من المدينة، يعاني أغلب سكّان الرقة وقاطنوها والعائدون بعد غياب قصير إليها، من شيء ما غريب يصعب وصفه. ثمّة اختلال بين الماضي، مدينتهم القديمة وما كانت عليه، والحاضر، هذا الذي يشاهدونه
اليوم أمامهم.
لقد أبدى معظم من عاد إلى المدينة بعد غياب، أسفهم على الرقة التي مثلت منذ القدم مركزاً لجذب السكان لموقعها على الفرات وخصوبة سهولها، وشكلت عاصمة ثانية مزدهرة للخليفة العباسي هارون الرشيد الذي ترك فيها بعض الآثار الدالة عليه، وأنجبت عبد السلام العجيلي والموليّا والشعر الشعبي الأصيل.
وإذا كانت سوريا كلها قد تعرضت لما تعرضت له من تغيير وتخريب منذ بداية الحرب عام ٢٠١١، فقد كان للرقة على ما يبدو النصيب الأكبر.
مخلفات الحرب الكثيرة
تشير علا خليف، طالبة جامعية، إلى استمرار وجود “داعش”، من ناحية المظهر الخارجي والانتشار الهائل للنقاب، الأمر الذي كان نادراً جداً قبل سيطرة التنظيم على المدينة.
إلى جانب الغياب الأمني شبه الكامل، الأمر الذي أدى إلى زيادة السرقات والاعتداءات والمشاكل بطريقة خارجة عن السيطرة، بحسب “خليف”.
وخلال الفترة التي قضتها “خليف” في بيتها، نشب في شارعها فقط أكثر من خمس عراكات بالسلاح الأبيض أغلبها بين فئات عمرية صغيرة، على أسباب أقل ما يقال عنها بسيطة.
وتحذّر الطالبة من أن استمرار الغياب الأمني بهذا الشكل سيؤدي إلى زيادة في معدل ارتكاب الجرائم ونسب القتل.
ويحدث أحياناً، أن تقرر إحدى العشائر الهجوم على فرد أو عشيرة ثانية، بالأسلحة الخفيفة أو الثقيلة، بمبرر أو دون في أغلب الأحيان، كما يقول علي سعيد، طالب طب بشري، فيلجأ السكان وأولادهم في هذه الحالة لالتزام البيوت خوفاً من حدوث أي مكروه لهم. هكذا إلى أن يقرر الطرفان أو أحدهما إنهاء المشكلة.
وتضمّ الرقة، عدّة عشائر عربية عريقة، أبرزها المشهور وجيس، وعشيرة العفادلة التي تعد من أكبر العشائر الموجودة في الرقة، والولدة والجبورية والبو جابر والشبلي السلامة، والبو مانع، والبوسرايا، والزيادات والبو عيسى، والمحمد الحسن، والبليبل، والبياطرة التي تقطن مدينة الرقة.
البعض سعيد
من جهتها، أبدت فرح موسى، معلمة مدرسة، سعادتها من حال السكان الملتزم الجديد، مؤكِّدة لنورث برس، أن كل من لا يعجبه الالتزام الديني المنتشر بين سكان الرقة “هم مجرد كارهين للإسلام، وأنها، منذ خلقت، لم تشاهد مدينتها على هذه الحالة الملتزمة الجميلة”.
وأشارت إلى أن غالبية العائلات الرقاوية الموجودة في حالة مادية، هي الحالة المتوسطة التي كانت أغلب عائلات سوريا تقع فيها، بينما قبل الحرب مثلاً كان هناك الكثير من تحت خط الفقر، في الوقت الذي كانت فيه بعض العائلات تصرف الكثير من المال على أشياء غير منطقية.
كما ساعدت المنظمات الموجودة في المدينة، الكثير من الشباب على الزواج والاستقرار وتحسين أوضاعهم المادية والعائلية.
وحول الانفلات الأمني وما يرافقه من حالات سرقة وخطف وقتل، قالت “موسى”، إن الأمر طبيعي ويحتاج إلى القليل من الوقت والمزيد من الاهتمام والمتابعة ليعود الوضع إلى ما كان عليه، وأن سوريا كلها هكذا، لا الرقة فحسب.
على عكس محمد عبدالله وهو مهندس مدني في الرقة، الذي أكد لنورث برس عدم صحة هذا الشيء، وأن “الالتزام الديني لا يتعدى النقاب والمظهر الخارجي”، مستنداً في ذلك إلى “الجرائم والاعتداءات التي صارت كثيرة”.
وحذر هو الآخر من استمرار غياب الأمن الذي قد يؤدي إلى المزيد من المشاكل.
هناك بصيص أمل
يقول حسام أحمد، من سكان الرقة، وصاحب مقهى ثقافي، إن هناك دائماً أمل. “أمل بالشباب المثقف الذي صار أكثر جرأة على المطالبة بحقوقه والوقوف في وجه أي شخص يحول دون ذلك”.
يقول “أحمد” إنه سعيد بالاستماع إلى النقاشات الأدبية والثقافية للشباب الذين يرتادون مقهاه كل يوم، في صورة لم يكن يراها كثيراً قبل الحرب، وقبل دخول تنظيم “داعش” إلى المدينة وبعد العودة الأولية إليها.
وفي إحدى الطاولات، فضّل فؤاد عبدالله، (25 عاماً)، البقاء في الرقة، والعمل في التمديدات الصحية لمساعدة عائلته، على إكمال دراسته في دمشق، دون أن يلغي ذلك حبه للقراءة وحضور الأمسيات والجلسات الثقافية.
يقول الشاب العشريني، إنه ليس نادماً أبداً. ربما كان أفضل لو أكمل تعليمه ونال الشهادة، لكن هذا لا يعني أبداً أن الدنيا انتهت، كما قال، فعالم اليوم يعتمد على الخبرة أكثر من الشهادة، وأنه يستطيع أن يتعلم كل ما يمكن تعلمه في الجامعة لوحده، وأن الرقة اليوم، رغم كل ما مرّت به على مدار السنين الفائتة، صارت تذخر بالكثير من الأسماء الشابة المثقفة، والتي، حسب رأيه، ستعود بالرقة إلى سابق عهدها من ثقافة ورقي.
ويشير “عبدالله”، إلى أن الكثير من المبادرات الفردية والجماعية تعمل ليل نهار على تحسين الوضع المجتمعي والثقافي، مؤكداً أن الأيام القادمة ستثبت ذلك، “اصبروا شوي، والله لتصير الرقة أشهر من باريس”، ويضحك.
في حين يتمنى محمد حسن، معلم مدرسة متقاعد، من سكان الرقة ومحبيها مساعدتها على العودة إلى ما كانت عليه، عوضاً عن الجلوس وملاحقة كل كبيرة وصغيرة فيها وانتقادها.
يقول “حسن”: “الرقة مدينتكم وحبيبتكم وبنتكم، كونوا معها لا عليها أيضاً، فما جرى وما زال يجري من قتل وتخريب وتدمير يكفيها. قف معها وساعدها على النهوض أو لا تقف على الأقل في وجهها”.