العرائس البلاستيكية، “مؤامرة على الله” تستدعي “إقامة الحد”، أما الحذاء النسائي فعليه أن لا يستثير “الشهوة”، وعلى الحذّائين التقيد بما أنزل الله على مؤمنيه من أحذية لا تستثير الشهوة، أما جسد المرأة فليس عليه سوى “الصمت” وقد تحوّل الجسد إلى ساحات للمعارك ما بين “حرّاس الفضيلة” و”الزمن”، الزمن الذي يعني فيما يعنيه إطلاق الفرد لخياراته وروح عصره.
حكت لنا الكاتبة الإيرانية آذار نفيسي بعضاً من الحكاية، فقد كتبت السيدة مذكراتها، واختارت أن يكون لها لغتها في السرد، فـ”كانت ابنتي تحكي لي قصة، لما سمعنا فجأة صوتًا يصيح قائلاً: اضطبطي حجابك.. التفت ورائي ورأيت شابًا يمشي وراءنا.. هل أنت صمّاء؟ قال لي. وأردف “لا نريد عاهرت في هذا البلد، ألم تسمعي بالثورة؟”.
- فرح ديبا.. سامحينا:
فيما كتبته نفيسي استنطاق لما تشهده بلاد “المرشد.. ظل الله”، فالمرأة بنصف شهادة، وبنصف دين وبنصف عقل، وإن بانت خصلة من شعرها فهي “عاهرة”، ولم يغفر للمرأة الإيرانية أنها أنتجت فيما أنتجت نساء ساحرات من مثل “شيرين عبادي” الحائزة على جائزة نوبل، والتي سبق وساندت “الثورة الإسلامية” لتفتح عينيها بعد عقود من انتصارها لتقدّم اعتذارها الممتلئ بالحزن والخيبة وهي تخاطب الشباب الإيراني “نرجو منكم مسامحتنا لقيامنا بتدمير عالمكم، لم يكن هذا هدفنا، كنا نسعى لعالم أفضل لنا ولكم، لكننا أخطأنا.. كانت المشكلة تكمن في عدم معرفة القائد الجديد، حيث انجر الملايين من الإيرانيين خلف الخميني دون أن يقرأوا له كتابًا واحدًا”.
اعتذرت شيرين عبادي، ولو كان باستطاعتها، ربما لاعتذرت من الامبراطورة فرح ديبا وزوجها الشاه الراحل، فقد امتلكا سلطة السلطان ولم يضيفا سلطة الله والسلطان إلى تاجهما.. لم يحرّما الموسيقى، ولم يفرضا ألوانهما على أقمشة الإيرانيين، وقد حصر “الخميني” كل ألوان الطبيعة بألوان اختارها وحصرها بـ”الكحلي والبني والعسلي”، أما السيادة فللون الأسود.. وعلى النساء الكف عن النظر إلى الألوان الأخرى.
كان لإيران ما قبل الخميني الألوان الأساسية السبعة، مع تدرجات لا نهائية للإيرانيات المحتفلات بألوانهن وبالموسيقى وبالشعر الفالت الذي يحكي لغته.. كان للإيرانيات أزياء تلهِم دور العرض الباريسية، وكان لأجسادهن لغتها، وقد استبدل “الملالي” كل لغات المرأة بلغة “الصمت”، لغة الجسد الميت الذي إذا ما نطق فقد كفر.
- أجساد ناطقة:
ـ إنها اليوم تستعيد لغتها، هذا كل ما تفعله المرأة الإيرانية، ومع صوتها كانت صرختها:
- ـ الموت لخامنئي.
والمدقق في هذا الصوت، سيعرف بالتمام والكمال، أنهن لا يقدّسن الموت، كل ما في الأمر أنهن يبحثن عن الحياة بموت مغتصبي حياتهن.
إنها ثورة .. آزادستان.
فالبنات يبحثن عن “جمهورية الحرية”، لينسجن الزلزال الخامس الذي تشهده إيران اليوم ما بعد زلازل سابقة اتصلت بالرغيف وفرص العمل، وبسطوة رجال الباستيج على الحياة، كل الحياة ابتداء من الانتخابات الرئاسية وصولاً لحصر النقمة والنعمة برجل واحد بات له اسم مشتق من الله حتى حرم الإيراني من أن يشتكيه إلى الله، ما يعني أنك:
ـ كيف تشكو الله إلى الله، وقد بات خامنئي هو “الله” بوجهه الغامض وملامحه الأقرب حد المقصلة؟.
بخلاف الاحتجاجات السابقة، فالحركة الاحتجاجية الإيرانية اليوم، ليست احتجاجًا على قرار اقتصادي من مثل رفع أسعار البنزين أو الخبز، إنها ثورة تطمح إلى “امرأة، حياة، حرية”، وبخلاف الحركات السابقة (وإن كانت حاملة لها) فهي حركة غير مرتبطة برجال الدين.. هي حركة مناهضة لسلطة الدين وقد تجنّب المحتجون عمدًا استخدام أي رموز دينية، ومن الواضح أيضًا أنها لا تضم رجال دين ولا تشملهم كما حال الثورة الدستورية بداية 1979، ولا حتى الثورة الخضراء 2009 وقد ضمت في صفوفها رجال دين من مثل مهدي كروبي على سبيل المثال لا الحصر.. هي ثورة، لحظة مفصلية في الانفصال عن رجال الدين، أولئك الذين فاتتهم حقيقة، سبق وأن فاتت قيادات الإسلام السياسي في بلدان أخرى، تلك الحقيقة التي تقول بأن الدين حين يتحوّل إلى سلطة يطيح بالدين ولا يضمن ديمومة السلطة، وكان وقبل سنوات خلت، أن تنبأ التونسي الراحل العفيف الأخضر بما سيؤول إليه الدين في بلد يحتكم إلى سلطة “ورثة الله”، وهذا بعض من تداعيات حُكم الدين في بلد “المرشد”:
ـ قبل منع الاختلاط في المدارس والجامعات كان الشباب المدرسي والجامعي لا يمارس الجنس إلا بعد 3 شهور من التعارف في المتوسط. أما بعد منع الاختلاط فأصبح يمارسه منذ اللقاء الأول.
ـ في عهد الشاه كان معدل البغاء في إيران أقل بكثير من المعدلات العالمية، أما بعد فرض الحدود الشرعية العتيقة فقد تحولت إيران، بشهادة صحافتها، إلى ماخور بلا جدران تُمارس فيه كل ألوان “الرذيلة” تحت سمع وبصر ميلشيات “الفضيلة”!.
ـ يرفض سائقو التاكسي التوقف لنقل رجال الدين، ومنذ السنة 1990 لم يعد اسما علي والحسين شائعين بين المواليد الجدد، فقد عُوضا باسمين وثنيين: داريوش (اسم لملوك الأسرة الإخمينية) وأراش (البطل الأسطوري الذي رسم حدود إيران بأربع حجرات رماها في الاتجاهات الأربعة).
ـ ترك غالبية المؤمنين خاصة في المدن شعائر الإسلام.. الجامع الذي كان يصلي فيه، في عهد الشاه، بين 3 و5 آلاف مصلٍ لم يعد يصلي فيه إلا 15 صلاة الصبح و25 صلاة الظهر.
ـ لأول مرة عرفت إيران ظاهرة الجوامع والمساجد الفارغة من المصلين.
ـ سنة 2000 كشف نائب رئيس بلدية طهران، حجة الإسلام علي زم، في تقرير البلدية السنوي أن 75% من الشعب و 86% من الطلبة تركوا الصلاة.
ـ في ختام ولايته، اعترف الرئيس خاتمي للسفير الألماني في إيران بأن نسبة من يصومون رمضان هي 2% فقط وكانت في عهد الشاه أكثر من 80%.
ـ أجرت المستشرقة الفرنسية ، مارتين غوزلان، تحقيقاً عن الثورة الإسلامية نشرته الأسبوعية الفرنسية “ماريان” عنوانه الفرعي “30 عاماً من الثورة الإسلامية: 30% من الملحدين”! النسبة هائلة في مجتمع إسلامي شبه تقليدي خاصة، إذا علمنا أن 25% فقط من الأوروبيين يقولون إنهم لا دين لهم و6% فقط يقولون إنهم “ملحدون مقتنعون”.
ـ كان هذا كافيًا لأن يصرخ رئيس اتحاد الملحدين في فرنسا مبتهجاً: “مرحباً بالثورة الإسلامية حتى في فرنسا حيث نسبة الملحدين أقل من هذا بكثير”.
ما سبق هو ما حققه العفيف الأخضر، غير أن تقارير أخرى لفتت إلى أن المادة 174 من قانون العقوبات في إيران تنص على تنفيذ الحد على شارب الخمر بالجلد 80 جلدة سواء كان الشارب رجلاً أم امرأة لكن رغم التحريم والتجريم، فإن إيران صنفت عام 2014 بالمرتبة الـ19 عالمياً من حيث استهلاك الكحول، فمن هم شاربو الخمر في إيران؟ وكيف يحصلون عليه؟.
لقد استعادت أرض فارس مكانتها باعتبارها مهداً لصناعة الخمور وقد تشبّع الأدب الفارسي بأسماء الخمر والخمّارات، وها هي إيران تتصدر اليوم قائمة أكثر الدول استهلاكاً للخمر.
لكن كيف يتم ذلك؟ وكيف تصل المشروبات الكحولية لمحبيها رغم قوانين الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟.
إنها الشبكة العنكبوتية وقد انتشرت عليها مئات الطرق لتخمير النبيذ من مختلف أنواع الفاكهة الموجودة في إيران.. إنه الجنرال “زمن” وقد أطاح بالجنرال قاسم سليماني، وبالمرشد، وهذا ما فات الإسلام السياسي، وما سيقضّ مضاجعه سواء انتصرت ثورة صبايا جمهورية آزادستان أو انتكست، فقد سجلت للتاريخ بأن جسد المرأة ليس صامتًا، فها هو يستنطق اليوم النقاد والمنشقين الأكثر علمانية وليبرالية، والذين تجنبوا كما تحكي الكاتبة الإيرانية نوشين أحمدي، تجنّبوا باستمرار الاعتراف بالقمع المنهجي الذي يمارسه النظام على حرية النساء وكرامتهن؛ وركزت أيضاً على إلزامية ارتداء الحجاب كمشكلة جوهرية وليست ثانوية.
لقد كشفت الحركة الاحتجاجية الحالية عن تغيير جذري في وجهة نظر الكثير من الإيرانيين إزاء هذه المحنة التي تواجههم وحلولها المحتملة، حيث ازداد عدد المواطنين الذين أصبحوا يعتبرون حقوق النساء أفضل نقطةِ انطلاقٍ لنضالهم من أجل الديمقراطية في وجه الظلامية الإسلامية.
- الحجاب.. القشرة التي غطّت الزلزال:
“الموجة تجري ورا الموجة”، هي أغنية عربية كان لها تأثيرها على أجيال من المستمعين العرب وكتبها أحمد رامي فيما غنّتها أم كلثوم، ولابد أن للصورة مكانتها في الهبّات الشعبية التي ما إن تصطدم موجتها بصخور الشاطئ حتى تعقبها موجة تصطدم بالصخور مجددًا، لتكون العاصفة الكبرى التي تطيح بما يعترضها من صخور، وحال “الموجة” إياها قد شهدته إيران عبر موجات متتابعة كانت أولها ما وقع لإيران في 1997 والتي إن دلت فإنما تدل على خللٍ كبير في العلاقة بين السلطة والمجتمع في إيران ومن ثم تعاقبت الموجات وصولاً إلى “ثورة الصبايا” 2022 .
“ثورة الصبايا” كان لها عنوان هو “الثورة على الحجاب”، وفي واقع الحال، فـ”الحجاب” ومقتل الصبية “مهسا أميني” لم يكن سوى القشرة التي تغطي زلزالاً أكبر، وهو أمر أدركه شركاء “خامنئي” و”الحرس الثوري”، و”الباسيج”، ففي تعليق لحسن نصر الله أمين عام “حزب الله اللبناني” صرّح نصر الله بأن الحادث (أي مقتل أميني) حادث غامض… الواقعة يتم استغلالها لتحريض المحتجين في الجمهورية الإسلامية، “هناك استهداف للجمهورية الإسلامية الإيرانية، يتم استغلال أي حادث، ولو كان غامضاً، ولو كان غير مفهوم، من أجل التحريض”.
ـ تحريض مَن على مَن؟
إنه تحريض الإسلام السياسي على الإسلام الإيماني، هذا مالم يدركه حسن نصر الله، ولا خامنئي، ولم يدركا معه، أن النساء الإيرانيات اللواتي خضعن للاستلاب الخاطئ، انتقلن اليوم إلى الهتاف الصائب، إنه هتاف:
ـ الموت للمرشد.
لقد أطلقت النساء اللواتي تقيدهن الدولة، الهتافات ومزقن صور المرشد الأعلى علي خامنئي، والجنرال قاسم سليماني، وهما عملان لم يكن أحد يتخيلهما قبل أشهر.
أعداد هائلة من النساء نزلن إلى الشارع، كرديات، وفارسيات، ومن الأقليات، إلى الشوارع بلا حجاب.
لقد بات الأمر يتعلق بـ85 مليون إنسان، يقاتلون من أجل حقوقهم، اجتماعياً واقتصادياً وفي كل منحى من مناحي الحياة.
نساء كثيرات من هذا العالم رفعن صورة الفتاة الكردية مهسا أميني، باتت أميني على كل الشاشات وفي كل بيت.. صورتها اليوم تضيء طريقًا كنا نخاله مهجورًا، وإذ به يغصّ بالصبايا الهاتفات:
ـ آزادي.. آزادي.