في مخيمات النزوح.. وصايا موتى رحلوا قهراً على سري كانيه

الحسكة – نورث برس

في مقبرة تل متعب كما تعرف تسميتها محلياً في مدينة الحسكة، يشير حسين بيده إلى عدة قبور متراصة بجانب بعضها، ويقول: “هؤلاء هم أولاد عمومتي وأقربائي، فقدوا حياتهم قهراً بعد خروجهم من سري كانيه”.

ينهي الخمسيني جملته، ليجلس بالقرب من شاهدة قبر وهو يغوص في خياله ساكناً، دون أن تخرجه من تلك الحالة ضوضاء المركبات وحركة السكان على الطريق العام المار بالقرب من المقبرة.

وعلى غرار عشرات الآلاف من سكان سري كانيه (رأس العين) الحدودية مع تركيا، غادر حسين سينو(55 عاماً) مدينته، مجبراً، عقب الهجمات التركية برفقة فصائل معارضة موالية لها، في التاسع من تشرين الأول / أكتوبر 2019.

ويسكن الرجل برفقة أسرته حالياً في مخيم سري كانيه بحي الطلائع شرقي الحسكة، حيث باتت الخيمة ملاذهم الأخير بعدما ترك خلفه كما أقرانه شقاء سنوات عمره في مدينته.

وتحت خيمته التي ما لبث أن جلس تحتها دقائق قليلة حتى تصبب العرق من جبينه، يعود “سينو” بذاكرته إلى اليوم الذي شنت تركيا هجومها.

يسرد تلك اللحظات وهو يتخيل هول ما جرى فجأة، وكأنه كان “يوم القيامة”.

الساعة كانت تشير إلى الرابعة عصراً، عندما شنت الطائرات  التركية أولى ضرباتها على المدينة  قبل أن تتوالى الانفجارات في أرجاء المدينة وريفها، لتبدأ على إثرها موجة نزوح جماعية للسكان.

يقول وهو يستحضر تلك اللحظات في ذاكرته وكأنها مشهد وليد اللحظة: “سكان سري كانيه خرجوا بالكامل، هرعنا بلباسنا الذي نرتديه، فمن كان لديه سيارة خرج بها ومن لم يملكها استأجر واحدة، فيما خرج الكثيرون سيراً على الأقدام”.

“ذهب تعب سنوات أدراج الرياح”

المشاهد المرعبة التي عاشها “سينو” مع عائلته في طريق الخروج من المدينة، دفعته للنوم في تلك الليلة كما حال المئات، في العراء وبين الأراضي الزراعية بالقرب من بلدة تل تمر المجاورة، أملاً بالعودة حين تهدأ الأوضاع.

إلا أن اليوم التالي من الهجوم لم يحمل أخباراً سارة لنازحي سري كانيه، الذين استيقظوا على أخبار تفيد باقتراب القوات التركية والفصائل من المدينة.

هذه الأنباء السلبية، دفعت بالنازحين لإكمال مسيرهم صوب مدينة الحسكة، حيث المحطة الآمنة بعدما اقترب القصف  والاشتباكات شيئاً فشيئاً من تل تمر أيضاً.

ومع توافد سكان منطقة سري كانيه كأفواج إلى الحسكة، عمدت الإدارة الذاتية إلى فتح المدارس كملاجئ إيواء لهم كحل إسعافي.

وضمن مدارس غير مجهزة تفتقد لكافة مقومات الحياة، تقاسم “سينو” إحدى غرفها مع عائلتين، التي ربما كانت من أصعب أيام حياته.

ويقول عن معاناتهم، وكيف أمضوا ليلتهم الأولى في غرفة مدرسية، “افترشنا الأرض من دون أفرشة وأغطية، فكل شخص كان يضع حذاءه تحت رأسه وينام”.

تنهد “سينو” في تلك اللحظات قليلاً وكأنه تذكر شيئاً، قبل أن يكمل حديثه بنبرة يغلبها الحزن، “كانت معاناة شديدة بالنسبة للأطفال والعجز، حتى أن بعض السكان أصابتهم  جلطات من القهر  بعد ما ذهب تعب عشرات السنين أدراج الرياح”.

وبعد فترة قصيرة من استقرار النازحين في المدارس، عمدت الإدارة الذاتية لنقلهم إلى مخيمات أنشأتها على عجل، بعدما بات العام الدراسي على  الأبواب، من بين أولئك النازحين كانت عائلة “سينو”.

وتضم الحسكة، مخيمان، وهما مخيم واشوكاني ومخيم سري كانيه ويضمان نحو 30 ألف نازح أغلبهم أطفال ونساء وكبار سن من سري كانيه.

فيما لا تزال عشرات العائلات في مدارس الحسكة، لاكتظاظ المخيمين وعدم استيعابهما أعداداً إضافية من النازحين.

إعادة الرفات

ورغم أن خيمته تفتقر لأدنى مقومات الحياة وسط صعوبات معيشية وعدم قدرتهم على الاهتمام بالنظافة بسبب الغبار الذي يملئ المكان جراء موقع المخيم الصحراوي، يجد “سينو” ذلك أفضل من العودة دون ضمانات.

ويقول: “بعض الذين تأخروا في الخروج من سري كانيه، أقدم عناصر المعارضة على تنفيذ القصاص بحق بعضهم بتهمة التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية”.

وبمرور ثلاث سنوات على الهجوم التركي على سري كانيه وتل أبيض، يعاني النازحون في المخيمات الأمرين من تبعات خروجهم من منازلهم .

إلا أن ذكريات الماضي الجميل لم يستطع البعض تحملها، ما تسبب لهم بأمراض مزمنة ونفسية حادة، أودت بحياة البعض قهراً على فراق مدينتهم، من بينهم شبان.

ويقول  “سينو” إنه توفي من عائلته نحو 15 شخصاً من أولاد عمومته وأقربائه،، لم يتجاوز أغلبهم سن الـ 40 عاماً، بعدما أصابتهم الجلطات نتيجة القهر الذي لازمهم عقب خروجهم من مدينتهم.

ويضيف: “فمن حياة هانئة وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها بلا مأوى للنوم فيه”.

ترك كل من توفي بعد النزوح وصية لعائلته وأقربائه بإعادتهم إلى مدينتهم في حال عادوا إليها يوماً.

يقول النازح: “ترك الموتى وصاياهم قبل رحيلهم عن هذه الحياة، أنه مهما طال بقاءنا هنا، يجب إعادة رفاتهم إلى جانب قبور أجدادهم في مدينتهم في حال العودة يوماً ما، ونحن بدورنا عملنا لهم توابيت ملفوفة بشوادر للوقاية من الرطوبة، تحسباً للعودة”.

وفي خضم هذه المعاناة، وبدخولهم العام الرابع وهم في المخيمات، تراقب أعين الجميع ببصيص آمل يعيدهم إلى ديارهم في المستقبل القريب.

وتحت خيمته الذي عاش بحلوها ومرّها السنوات القليلة الماضية، يطالب “سينو” من الأمم المتحدة والعالم أجمع السماح لهم بـ”العودة الآمنة”، وكأنه يلمح لضيق الحياة به كما المساحة الصغيرة لخيمته شبه المهترئة.

إعداد: دلسوز يوسف- تحرير: سوزدار محمد