كراج “السيدة زينب”.. أغاني الفاعل والمفعول به

فونولوجيا” العنزة الجرباء (2)

أحمد بغدادي

لم يرقَ كراج “السيدة زينب”، أو ينافس إلى حدٍّ ما؛ طبيعة باقي كراجات دمشق وريفها، من جانب النظافة أو ظواهر أخرى، مثل عشوائية الوافدين إليه، وتنوّع انتماءاتهم، وحتى أصوات الباعة الصادحة عبر أرصفته، المحطّمة كأسنان العجائز. حيث يتكوّن الكراج من مضاميرَ موزّعة خاصة بالحافلات؛ كلُّ مضمارٍ يعود لحافلةِ ركّابٍ كُتبَ على فانوسها اسم البلدة أو القرية التي ينطلق إليها ويعود منها.

على بُعدِ عشرات الأمتار من “دوّار باب مصلى”، نحو كراج السيدة زينب، تقع حديقة “ابن عساكر” إلى جهة اليمين؛ الحديقة التي صارت مقصداً للمتسوّلين وبائعي المخدرات، والمُخبرين، و”الشاذّين ذهنياً”، علاوةً على بعض العابرين الذين يجلسون فيها بُغية الاستراحة المؤقتة؛ درءاً من قيظ الصيف، أو لعدم توفّر مقاعد أو أماكن تقيهم من عوامل منجزات “عائلة الأسد” القسرية في العاصمة الحزينة.

 أنجزَ ابن عساكر (499هـ – 571 هـ) العلّامة الكبير وشيخ محدّثي الشام، أهم كتبه، وهو مؤلَّفٌ ضخم يقع في ثمانين مجلداً بعنوان “تاريخ دمشق”؛ المدينة التي لو تناهى إلى مسمعِ ابن عساكر (في قبره) عن أحوالها، “حصرياً” منذ انقلاب حافظ الأسد، حتى اليوم، لأكل الترابَ، وتجرّعَ دوارقَ الأسى، وطَفِقَ يقول مستدركاً نفسه ندماً عبر بيتِ شعرٍ قادمٍ لأبي تمّام: ”  

“ما حَسرتي أن كِدتُ أقضي
إنّما حَسَراتُ نفسي أنّني لَم أفعَلِ”

ولمح بعضاً من تاريخ دمشق، الذي كان يتنبّأ فيهِ بازدهارها (المأمول)، حتى تحت سيطرةِ الطغاةِ، والخصيانِ الروس، وأتباعِ “الولي الفقيه”!

كراج السيدة زينب.. وأغاني مستعمرات السلطات المعنية

قديماً، وحديثاً، لم يحظَ الكراج كغيره من كراجات دمشق وريفها؛ بعناية جديّة من قبل “السُلطات المعنية”، التي لم نعرفها إلى هذا اليوم، من هي؟؛ سُلطات معنية.. ها!،.. بمَ؟ لا نفقه فحواها الحقيقي ولا مبتغاها!؛ فعلى سبيل المثال: “السلطات المعنية” لطالما تتدخّل في كل شيءٍ يخصّ حياة المواطن السوري؛ المخابرات، الشرطة، الجيش الأهطل، قواتُ الفرقة الرابعة التابعة لـ”ماهر الأسد”، ذراع الإجرام في مملكة آل الأسد، مكتب مكافحة المواطنين السعداء، وزارة التموين، البلدية المختصّة بهدم منازل الفقراء، القيادة القطرية لحزب البعث “الاستشراقي”، مكتب “مكافحة إسرائيل”، وزارة العدل والعدلاء، نقابة الفنانين والراقصات، نقابة المحامين الأوصياء، وزارة الصحة ذات الكحة، وزارة الزراعة والثروة الحيوانية الوطنية، مجلس  الشغب الديمقراطي، المؤسسة العامة لتربية الدواجن والتأمينات الاجتماعية.. إلخ…، من وزارات ونقابات، ومكاتب، ومؤسسات؛ كلّها سلطات معنية! نعم.. هذه الجهات المعنية أو السلطات لها أغانيها الخاصة، وتظل إحدى عينيها ساهرة على خدمة كراج القصر الجمهوري، الذي ترتاح فيه سياراتٌ فارهة، قد تُستخدم مرةً في العام لتجربة مسجّلاتها لسماع أغنية “يا بشار، مثلك مين”.. والعين الأخرى تبقى عوراء تجاه خدمة المواطن!.  

عند كراج السيدة زينب، المحاط بأكشاك لبيع الملابس المزركشة والأطعمة المستعملة، وأغاني “التطبير و “اللطميات” الإيرانية، والأبنية القديمة التابعة لمؤسسات “الدولة العتيدة”، “القريبة” إلى البيوت في حي “الشاغور”، ثمة جهتان متقابلتان:

الأولى، تأخذكَ مزدحماً بالتعاويذ دون أغانٍ آدمية إلى دوّار البيطرة (العائد تسميته لمركز طبي يعالج الحيوانات المريضة)، حيث من الإجحاف حقاً، أن مسكنَ “آل الأسد” لم يكن هناك! .

 الجهة الأولى ذاتها أيضاً، تُفضي نحو حي “الدويلعة، جرمانا، المليحة…، الغوطة، التي قصفها الأسد وحلفاؤه  بالأسلحة الكيميائية عام 2013 “؛   وحتى إلى مطار دمشق الدولي، الذي “تضاجعه” الطائرات “الإسرائيلية”  كل أسبوع بقذائف صاروخية، للتأكيد على أنّ “نظام المقاومة والممانعة” عقيمٌ، ولا ينجب مُطلقاً  أي ردّة فعل، إلا في حالات إسعافية نادرة، للاستهلاك الإعلامي، يتمخّض عبرها عدّة صواريخ من العهد السوفييتي، تسقط فوق رؤوس السوريين، أو “قطعانه” العسكرية!.

الجهةُ الثانية، تؤدي إلى مخيّم اليرموك (بيضة القبان الفلسطينية المتحطمة)، بلدة ببيلا، السيدة زينب (اسم الكراج) “معقل الميليشيات الإيرانية الطائفية، وحُجّاج الدين الوثني والعسكري”، والسكان الأصليين “الذين تمّ أدلجتهم، أو آثرَ بعضهم الصمت طلباً للنجاة!” وما يثير الاستهجان، أو التهكّم، أن كراجَ السيدة زينب؛ يُعدّ من أكثر كراجات دمشق وريفها؛ تشعّباً نحو بلدات وقرى دمشق، إذ أنّ الحافلات فيه هي شرايين المدينة التي تضخّ دماؤها (الركّاب) عبر أقنيةٍ إسفلتية نحو الأرياف، ولها.. أي الحافلات؛ طقوسٌ في الأغاني، منها ما تشمّ من خلالها رائحة البخور الفارسي، أو صدى أغنيةٍ  كان يردّدها “رادودٌ” في النجف الأشرف، بعفويةِ الشاب الصادق الذي عاش طقوسَ عائلتهِ دون مأربٍ “أيديولوجي”، أو تبعية للولي الفقيه (الخميني)؛ الذي أفتى بـ”تفخيذ الرضيعة” دون أن يمضي شطر الحقيقة أو هزيعها مما تبقى من “الباطل”، خجلاً من أغانيه المزاجية المثلومة؛ في كتابه “تحرير الوسيلة”، ولا حتى محبةً بالسيستاني أو البستاني الذي لم يجمع فاكهة الخُمس، أو الخوئي  “البراغماتي”، لأنهم يحبون “آل البيت”.

إذن.. في كراج السيدة زينب، قد تصابُ بالنقرس الفريد، لكثرةِ السير على أهدابكَ كي تشاهدَ الممرات الخاوية من الفرح والأغاريد والأناشيد، والأغاني الوطنية التي لا تقضي حاجةَ عنزةً جرباء.. هي ذاتها العنزة، التي لا تشرب إلا من رأس النبع!

الأغاني في كراج السيدة زينب، قد تكون على هيئة “كازينو” للفرح الماجن، أو عاصفة تقتلعُ أشجارَ الفنِ العريق! وتشير بسبابتها إلى العنزة الجرباء!!