“أن تقرأ لوليتا في طهران” .. رواية كشف الحكومات الإيرانية الشمولية

“لوليتا” قبل أن تخرج إلى الجامعة كل صباح، تبحث بقلقٍ عن خصلة شعر سقطت من لفاعها. “لوليتا” تُفتَّش كما يفتش المجرمون عند البوابة، “لوليتا” توقّع محضراً لأنها ركضت في الحرم الجامعي. “لوليتا” تُطرد من الجامعة لأنها ضحكت بصوتٍ عالٍ، “لوليتا” تُسجن وتعذَّب وتُغتصب، “لوليتا” تخرج من السجن لتتزوج من رجل لم ترضه، “لوليتا” تُعدم، “لوليتا” تُرجم لأنها زانية، “لوليتا” لا تشاهد التلفاز، “لوليتا” لا تأكل الآيس كريم في الشارع ..…

هذه بعض مظاهر المرأة في إيران طيلة سنين الثورة، و المرأة هنا هي آذر وتلميذاتها: نسرين، مهشيد، آذين، مانا، ساناز، ياسي، ميترا، وكل امرأة قُدِّر لها أن تقاسي الاضطهاد والعبودية في ظلّ الأنظمة الشمولية، وأعني هنا الجمهورية الإسلامية في إيران كما وصفتها آذر في معظم مواضع الرواية.  

“أن تقرأ لوليتا في طهران” هي رواية من تأليف الكاتبة آذر نفيسي الإيرانية. حيث تحكي الكاتبة تجربتها أثناء الثورة الإيرانية في الفترة الزمنية ١٩٧٨ – ١٩٨١، و هي التي فُصلت من جامعة طهران؛ بسبب رفضها ارتداء الحجاب، و من ثم غادرت إيران إلى الولايات المتحدة عام ١٩٩٧. 

درَّست الأستاذة آذر نفيسي؛ الأدب الإنجليزي في جامعة طهران، والجامعة الإسلامية، وجامعة الإمام الطباطبائي، و هذه الجامعات إلى جانب أهميتها الأكاديمية، كانت ذو أهمية سياسية أيضاً؛ كيف لا؟!  وهي كانت أرض الثورة الإيرانية في أواخر سبعينات القرن الماضي، حيث شهدت آذر كغيرها من المحاضرين والطلاب ما فعلته الجمهورية الإسلامية، وجماعة حماية الأخلاق، والطلاب الثوريون الذين انتموا إلى أحزاب عدّة يكاد يصعُب أن تجتمع في قاعة تدريس واحدة، لكنها أيضاً عاشت سنوات رائعة، مليئة بالفن و مشبعة بأجواء الحرية، ففي صفّها كان اليساري المتطرِّف يجلس بالقرب من الإمبريالي، والسلفي يناقش روايات هنري جيمس مع التقدُّمي والليبرالي والعلماني، بل ربما اجتمع هؤلاء كلهم في محاكمة جادة لرواية “غاتسبي العظيم”.

تسرد لنا آذر نفيسي؛ سيرتها الذاتية بقالبٍ روائي،  يدمج الأدب الغربي بالشرقي، فبعد استقالتها من الجامعة أطلقت العنان لنفسها لتُعبِّر هي ومجموعة من الطالبات عما في داخلهنّ من رفضٍ واستكانة، فاختارت سبع منهنّ لتخوض معهن نقاشات في الأدب، لأن الأدب برأيها من مهمته كشف الحقيقة، ففكرت بانتقاء عمل أدبي يعكس واقعها في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، تقول: “فإن هذا العمل لن يكون بأي حال؛ (ربيع الآنسة جين برودي) ولا حتى (1984)،  بل ربما يكون؛ (دعوة لضرب العنق) لـ (نابوكوف) أو إنني ربما أجد أقرب الأعمال حتى الآن هو (لوليتا)”.

إن رواية “أن تقرأ لوليتا في طهران” إلى جانب كونها سيرة ذاتية شيقة وغنية عما عايشته في بلدها، فإن نصها أيضاً شمل خطابات عدّة، أهمها ذلك النقد الروائي لأهم الأعمال الروائية المكتوبة باللغة الإنجليزية ذات التوجّه الواقعي، فمن خلال مناقشتها مع طلبتها ولا سيما المتشدّدين منهم، تميط آذر نفيسي اللثام؛ عن القراءات المختلفة للنص الروائي والكيفية التي تستقبل بها الأعمال الروائية، خاصة من الزاوية الأخلاقية و الأيديولوجية، حيث يبدأ الكتاب برواية “لوليتا”، ثم يرجع خمسة وعشرين عاماً إلى “غاتسبي العظيم”، بعدها يقف طويلاً في عالم هنري جيمس، وأخيراً ينتهي في القرن الثامن عشر مع جين أوستن.

لقد أتاحت لهنّ القراءة؛ الخروج من شرنقة المحرّمات والانسلال من قمقم التابوهات، فأطلقن نتيجة لذلك العنان لألسنتهنّ من أجل التعبير عما يختلج في صدورهنّ واختراع لغتهنّ السرية المشفّرة، كما سمحت لفكرهنّ أن يبدع معاني جديدة.

“كانت الروايات ملاذنا الآمن من قسوة الواقع، فكنا نستطيع أن نعبر بحريّة عن إعجابنا بجمالها أو كمالها، تاركين جانباً كل القصص والحكايا عن العمداء والجامعة وميليشيا حماية الأخلاق في الشوارع”،

واستطاعت الكاتبة بهذه الكلمات البسيطة تلخيص أجواء تلك اللقاءات الأدبية التي كانت تجمعها مع طالباتها كل أسبوع.  

إذ من خلال قراءة “ألف ليلة وليلة”، و”لوليتا”، و”دعوة لقطع العنق”، و “الحياة الحقيقية لسيباستيان نايت”، و”مدام بوفاري”، و”غاتسبي العظيم”، و”ديزي ميلر”… الخ؛ استطاعت الأستاذة وطالباتها أن يقمنَ مُقارنةً بين العالم المُتخيَّل الفسيح، ومجالهنّ الواقعي الضيق، لقد تمكّنَّ بوساطة هذه الأعمال الأدبية وغيرها من أن يستقرئنّ عمق حياتهنّ اليومية في ظل الحكم المطلق في الجمهورية الإيرانية، ويدركنَ جيداً الواقع المزيّف حولهن، ويقفنَ على تفاهة الخطاب السياسي مقارنةً مع النص الأدبي العميق الرصين. ليصبح مع آذار نفيسي؛ كل من فلاديمير نابوكوف، وغوستاف فلوبير، وسكوت فيتزجيرالد، وهنري جيمس، وجين أوستن وغيرهم من الروائيين؛ عبارة عن أصوات إبداعية متميزة، تصوّر الألم الجسدي الحقيقي والتعذيب في ظلّ نظام شمولي، وتصوّر لنا طبيعة الحياة الكابوسية التي تكتنف العيش في أجواءٍ من الرُّعب السرمدي؛ كما صار أبطال رواياتهم رموزاً وأيقونات لكل من يرفض الرزح تحت وطأة القمع، ويأبى العيش في مجتمع تملؤه الأكاذيب والوعود الخادعة، ويقاوم غرائزه بشجاعة، ويأمل في غدٍ مشرق.

إن الوعي بوجود صلة وطيدة بين ما يكتبه الروائيون الغربيون وما تعيشه الكاتبة وطالباتها في بلادهنّ المشرقية، يُضفي على الأدب بُعداً كونياً إنسانياً يكسر الحدود بين الهويات المختلفة، ويحطّم الجدران بين الثقافات المتنوعة، ويمدّ الجسور بين الداخل والخارج، المغلق والمفتوح، المحلي والعالمي، الهُنا والهناك، تقول “نفيسي”: “فهذا بلد يؤول كل إيماءة تأويلاً سياسياً أيّاً ما كانت تلك الإيماءة خاصة أو شخصية، فهم يجدون بأن ألوان إيشارب رأسي، وربطة عنق أبي تمثّل رموزاً للانحلال الغربي وللنزعة الإمبريالية”.

الكتاب يمثِّل وعاء من الذهب الخالص، سكبت فيه الكاتبة القديرة وجع أعماقها ووجدان روحها الحرة، “لوليتا” في طهران مظلومة و مضطهدة، كما كانت “لوليتا” في عالم “همبرت همبرت”، فهي لا تعرف ما الذي يدور حولها، وهي  الفتاة الضعيفة، المرغوبة، المرفوضة، المطاردة، المراقبة، و الجميلة، و في الآن نفسه هي حرة، و لكن فقط في أعماقها.

سامي فتاح