حماقة إعادة إشراك الأسد

انتشرت في الأسابيع الأخيرة تكهُّنات حول احتمالية تفكير تركيا، بإعادة العلاقات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد؛ بشكلٍ أو بآخر، وعلى الرغم من وجود العديد من الأسباب التي تبعث الشك بشأن احتمالٍ كهذا، فإن فكرة اكتشاف إجراء اتصالات جديدة مع دمشق؛ ليست بالأمر المفاجئ.

وعلى الرغم من أن السجلّ المروِّع لنظام الأسد، في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الذي بات ظاهراً للعيان, حيث يؤكد المدّعون العامون الدوليون؛ وجود مزيد من الأدلة لمقاضاة نظام الأسد؛ على الجرائم الدولية أكثر من تلك التي قدمها المجتمع الدولي في محاكمات نورمبرغ في التهم الموجهة إلى الديكتاتور السابق أدولف هتلر؛ زعيم الحزب النازي.

 نجد عدة حكومات في الشرق الأوسط، انتهجت مؤخّراً سياسات لإعادة إشراك النظام السوري في الساحة الدولية وتطبيع العلاقات معه، وبناءً على المناخ السياسي الراهن، يجدر بنا النظر في مصير وعواقب هذه المبادرات المثيرة للجدل.  

يمكن القول إن الإمارات العربية المتحدة، دفعت بشدة للتطبيع مع الأسد؛ عبر العلاقات التجارية واحتمال الاستثمار في مجال الصناعة والبنية التحتية السورية كقناة رئيسية لها, حيث قام ولي عهد أبوظبي؛ الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وحاكم دبي؛ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ببسط سجادة حمراء للأسد عند الزيارة المفاجئة التي قام بها في آذار/مارس، الماضي، وهو أمر اكتشفه كبار المسؤولين الأميركيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون أي تنبيه من أبو ظبي، وكردّ فعلٍ على ذلك، تمّ إخراج الإمارات من مجموعة الاتصال الدولية الخاصة بسوريا، كما أنها فشلت في تحقيق أي صفقة حيوية مع دمشق، ولفتت انتباه لجان فرض العقوبات في أوروبا، والولايات المتحدة، وكذلك هيئات التحقيق التي تركِّز على الفساد وغسيل الأموال والتهرُّب من العقوبات.

أما الجزائر؛ فقد تجنّبت منذ فترة طويلة معارضة النظام السوري، لكنها عملت بشكلٍ مكثّف خلال عامي 2021 و2022، لإقناع أعضاء جامعة الدول العربية بإعادة قبول سوريا؛ في الجامعة، ولكنها باءت  بالفشل، كما عاودت كل من مصر والبحرين وسلطنة عمان؛ التعامل مع نظام الأسد, لكن دون أثرٍ يُذكر.  

وعندما يتعلق الأمر بالأردن, يظهر الفشل جلياً في عملية إعادة إشراك الأسد، دون إضفاء مصداقية مجانية لنظامه وتقويض قضية العدالة أكثر، فعلى الرغم من كونه داعماً مهماً ومحورياً للمعارضة المسلحة ضدّ الأسد في سوريا، منذ عام 2012؛ انقلب الأردن في عامي 2017 و2018، وأصبح في مقدمة داعمي حملة النظام السوري الوحشية المدعومة من روسيا؛ ضدّ الجنوب السوري في صيف عام 2018، وكان سبب الانقلاب على المعارضة السورية هو رغبتها في إعادة الاستقرار على طول حدودها الشمالية وتهيئة الظروف الملائمة لعودة اللاجئين وتخليص جنوب سوريا؛ من خلايا الدولة الإسلامية، فضلاً عن الوجود الكبير لإيران وحزب الله في المنطقة.  

مع تعرّض مئات الآلاف من المدنيين السوريين للحصار والقصف العشوائي البري والجوي، أجبر الأردن شركاءه في الجيش السوري الحرّ؛ على الاستسلام، وفقاً للمقابلات التي أجراها مع القادة في ذلك الوقت. وفي المقابل، قدّم لهم الأردن وعداً بإجراء مصالحة بضمانٍ روسي.  

مقابل استعداد الأردن للانقلاب على شركائه القدامى وتركهم بلا حماية، تحرّكت سوريا والأردن؛ لإعادة فتح معبر نصيب، في تشرين الأول/أكتوبر، 2018، لاستئناف التجارة بين البلدين، وفي السنوات التي تلت ذلك، ارتفعت التجارة بين سوريا والأردن؛ بنحو 15 في المائة لتصل إلى إجمالي قدره 94 مليون دولار، اعتباراً من عام 2020.

إلى جانب الفائدة الضئيلة في استئناف التجارة، فإن وعد روسيا بـ “المصالحة” قد فشل فشلاً ذريعاً، ويمكن القول إن محافظة درعا؛ في جنوب سوريا، هي الآن المنطقة الأكثر اضطراباً في البلاد، حيث تعصف بها الهجمات اليومية من قِبل المعارضة والصراعات بين الفصائل والاغتيالات.

 وفي ظلّ هذه الفوضى التي فشلت روسيا في حلّها على الدوام، لم يقتصر الأمر على بقاء إيران؛ في أماكنها إلى جانب حزب الله، وشبكة من الميليشيات المحلية العاملة بالوكالة؛ بل وسّعت إيران ووكلاؤها؛ نفوذهم وبسطوا سلطتهم ليصبحوا مسيطرين على حوالي 150 منشأة عسكرية في جميع أنحاء جنوب سوريا، كما يواصل تنظيم الدولة الإسلامية(داعش)؛ شنّ هجمات متفرقة في المنطقة.  

إذا لم تكن كل هذه الأدلة كافية على فشل إعادة تعامل الأردن مع النظام السوري، فإن النمو الهائل في تهريب المخدِّرات التي يرعاها نظام الأسد؛ عبر الأردن؛ هي الدليل القاطع على ذلك الفشل، فمع تدهور الاقتصاد السوري بعد أكثر من 11 عاماً من الصراع وعقود من الفساد، تحوّلت النخبة المحسوبة على النظام؛ إلى تصنيع وتجارة المخدِّرات وخاصة الإنتاج غير المشروع للكبتاغون؛ وهو منشّط شبيه بالأمفيتامين، يُعرف باسم “كوكايين الرجل الفقير”، وبفضل صناعة الكبتاغون؛ أصبحت سوريا الآن دولة مخدِّرات ذات أهمية عالمية، ففي عام 2021، تمّ إنتاج ما يصل إلى 30 مليار دولار من الكبتاغون؛ في منشآت يحرسها متعاقدون عسكريون خاصون، ويتم تهريبها إلى خارج سوريا، من قِبل أقوى جهاز أمني في البلاد، ألا وهو الفرقة الرابعة المدرّعة التي يقودها شقيق الأسد، ماهر، وغالباً ما يتمّ ذلك بالتنسيق مع حزب الله.

30 مليار دولار؛ هو حوالي 35 ضعف حجم صناعة التصدير القانونية في سوريا، وببساطة لم تعدّ هناك أهمية لأي جزء آخر من أجزاء الاقتصاد القانوني، ويستمرّ هذا النشاط في النمو بشكل كبير، وبحسب مسؤولين أردنيين، فقد تمّ ضبط 16 مليون حبة كبتاغون على الأراضي الأردنية قادمة من سوريا، عام 2021، و في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022، بلغ هذا الرقم 20 مليون حبة، أما اليوم فقد وصل هذا العدد إلى 33 مليون، كما أصاب التضخّم أنواعاً أخرى من المخدِّرات القادمة من سوريا؛ والتي ضُبِطت في الأردن؛ من كيلوغرام واحد من الهيروين عام 2021 إلى 36 كيلوغراماً في عام 2022؛ على سبيل المثال لا الحصر.  

التكلفة البشرية لتطبيع العلاقات مع الأسد

على الرغم من وجود حركة محدودة لتهريب المخدِّرات عبر الحدود السورية الأردنية، إلا أن حجم تجارة المخدِّرات السورية قد تضخّم في العامين الماضيين، حيث حدث الارتفاع الأكثر حدّة (واستمر منذ ذلك الحين) مباشرة؛ بعد قرار العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني؛ بالتحدث مع الأسد عبر الهاتف في تشرين الأول/أكتوبر، 2021؛ ومنذ ذلك الحين، قُتل عشرات الأشخاص في اشتباكات حدودية مرتبطة بتجارة المخدِّرات السورية، وعلى الرغم من ذلك فقد كان الأردن في السابق نقطة عبور نحو السوق الرئيسية في الخليج العربي، وأصبح منذ ذلك الحين سوقاً رئيسياً بحدّ ذاته مع استخدام الكبتاغون في البلاد الآن؛ الذي بات يوصف على أنه “وباء”، لا سيما بين الشباب ووسط معدل بطالة يبلغ 30 بالمائة.  

جاءت مكافأة الأردن لإعادة إشراك نظام الأسد؛ على شكل موجة غير مسبوقة من تهريب المخدِّرات، مما يدل على السخرية الشديدة التي يُبديها الأسد؛ بشأن التعامل مع الجيران الذين سعوا مؤخّراً إلى الإطاحة به، وبالنظر إلى الحجم الاستثنائي لصناعة الكبتاغون في المناطق التي يسيطر عليها النظام في سوريا؛ فإن الارتفاع الهائل والمتسارع في التهريب إلى الأردن ليس مصادفة، علاوةً على ذلك، فإنه يؤكد أيضاً على الأهمية الوجودية لتجارة المخدِّرات بالنسبة لاقتصاد الأسد المتعثّر، فعندما يحين وقت الدفع، فإن الحفاظ على تداول أموال المخدِّرات يحظى بالأولوية على محاولات تشجيع إعادة إشراك النظام والتطبيع إقليمياً، وبعبارة أخرى؛ يبقى الأسد سعيد للغاية بالحصول على كعكته وأكلها أيضاً.  

وفقاً لدبلوماسيين أردنيين، فإن عمليات تهريب المخدِّرات في سوريا، أصبحت “منظمة بشكلٍ جيد”، ومع حدوث عمليات التهريب يومياً، والتي تضمّ كل منها حوالي 200 فرد؛ مقسمين إلى مجموعات؛ يقوم البعض بالمراقبة باستخدام طائرات بدون طيار، وفرق تمويه من المسلحين الذين يسعون إلى تشتيت انتباه القوات الأردنية، وقد زار مسؤولون أردنيون كبار واشنطن؛ منذ ذلك الحين، وقدّموا إحاطات خاصة عن مدى تعقيد مسألة تهديد تهريب المخدِّرات وعلاقاته المباشرة بجوهر النظام السوري ودور إيران وحزب الله.  

ومما لا يثير الدهشة، أن تعبيرات الأردن العلنية عن الصداقة “الأخوية” مع النظام السوري؛ قد توقفت، وقام وزراء الحكومة بتحويل نقاط حديثهم في سوريا، إلى مواضيع مثل اللاجئين وإيران, والذي هو بمثابة إعادة تنسيق واضح للوضع السابق، لكن الاستثناء الوحيد لذلك هو سعي الأردن المستمر لإقناع الحكومة الأميركية؛ بمنح إعفاء من العقوبات لصفقة طاقة إقليمية تتضمن تمرير الطاقة عبر سوريا, بعضها سيبقى في سوريا, مروراً بشكلٍ مباشر عبر الخطوط التي تغذّي سجون النظام والمنشآت العسكرية. وعلى الرغم من أن مثل هذه الصفقة تهدف إلى تزويد لبنان بساعة أو ساعتين من الكهرباء يومياً، إلا أنها لن تفعل أكثر من تقوية يد سوريا داخل لبنان، وتضع الأسد في قلب ترتيب إقليمي رئيسي و بدعمٍ دولي أيضاً.  

على الرغم من ادّعاء وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي؛ أن الأزمة السورية يمكن حلها من خلال “نهج تدريجي” لإشراك نظام الأسد, حيث يقدم المجتمع الدولي مزايا لدمشق؛ مقابل خطوات إيجابية متبادلة من قِبل سوريا؛ فإن نهج الأردن هذا مبني على الاعتقاد بأن إعادة دمج نظام الأسد في الآليات الإقليمية، سيشجع على السلوكيات الأفضل ويثبِّط السلوكيات السيئة. وعلى الرغم من عدم وجود دليل يدعم مثل هذا الافتراض، إلا أن هناك قائمة لا حصر لها من الأمثلة حول سبب احتمال حدوث العكس، ففي الواقع ربما تكون تجربة الأردن الخاصة في إعادة إشراك نظام الأسد؛ أفضل دليل على أن “النهج التدريجي” لن يؤدي إلا إلى منح تنازلات لدمشق، مع عدم الحصول على أي مقابل، هذا إن لم يحدث الأسوأ.  

ومع الاستفادة من تجاربنا السابقة، يزعم المسؤولون الأردنيون الآن بشكلٍ خاص؛ أن نيتهم لم تكن أبداً إعادة إشراك نظام الأسد بالكامل، ناهيك عن تطبيع العلاقات معه، إلا أن هذه لم تكن اللغة الدفاعية التي استخدمها المسؤولون الأردنيون في أواخر عام 2021، عندما واجهوا موجة من النقد في ذلك الوقت، فكان هناك ما يبرّر الزيارات رفيعة المستوى والاتصال بالنظام بشكلٍ خاص لي وللعديدين؛ كخطوات تمّ اتخاذها لتحقيق الاستقرار في جنوب سوريا، وتهيئة الظروف لتسهيل عودة اللاجئين، مع تعزيز التجارة أيضاً وتعزيز أمن الحدود وإنهاء تهريب المخدِّرات.  

بعد أشهر، انتقد الأردن، وبشقّ الأنفس؛ الغزو الروسي لأوكرانيا، وبالنظر إلى علاقة عمّان الاستراتيجية الوثيقة مع واشنطن، فإن آثار إعادة الارتباط الأردنية القصيرة الأمد مع نظام الأسد؛ قد وجّهت ضربة قاسية للجهود الدولية للحفاظ على سياسة هادفة تهدف إلى تحقيق الاستقرار في التغيير والعدالة في سوريا.

 ومن ناحية أخرى, تواصل الولايات المتحدة ممارسة النفوذ والموارد؛ لإقناع شركائها الدوليين بالحفاظ على جبهة موحّدة في معارضة عودة الأسد إلى المجتمع الدولي، ولكن عندما يقوم أحد أقرب حلفائها الاستراتيجيين الإقليميين بكسر هذا الحاجز تبدأ الجدران بالانهيار.  

وعلى الرغم من كل هذا، حصل الأردن للتو على صفقة اقتصادية بقيمة 10.5 مليار دولار مع الولايات المتحدة، وبدأت بالاستفادة من التوسُّع الملحوظ في التعاون العسكري متعدّد الجنسيات في تأمين حدوده مع سوريا، ورغم احتمالية تساهل صانعي السياسة مع الأردن على حساباته الخاطئة بشأن سوريا، إلا أنه لا ينبغي نسيان الدروس المستفادة من تلك الأخطاء، ففكرة أن العمل مع نظام الأسد سيحقّق أي فوائد ملموسة؛ يجب أن تُقابل بالسخرية التي تستحقها.  

المقال كتبه تشارلز ليستر لمجلة فورين بوليسي وترجمته نورث برس