“فونولوجيا” الكراجات في سوريا.. بين الناطق والمنطوق

“توطئة لسيرة أغاني وأحوال الكراجات” (1)

أحمد بغدادي

لم يخطر في بالي يوماً ما، أن الناطقَ والمنطوقَ قد يتشابهان ذات مرة. فالناطقُ له جنسٌ، وشكلٌ، ولونٌ وطبعٌ ومزاجٌ.. وأيضاً يتغيّر منطوقه بحسب الظروف المحيطة به، أو الأفعال التي تدفعه للنطق، الإنسان مثلاً قد ينطق بكلمةٍ لا تشبههُ، أو عكس ذلك؛ ربما شتيمة، أو يُعبّر بالمنطوق بجملة حميميةٍ، فضلاً عن الكلام اليومي الذي ينطقهُ كي يساعده على التواصل مع الآخرين، وبدورهم الآخرين؛ يفعلون كذلك، إنما بلهجاتٍ متعدّدة، أو لغاتٍ أخرى، وتعابيرٌ لها رنينها، وإيقاعها على المسامعِ.

الحيوان أيضاً؛ له لغته، وتواصله غريزياً، عبرَ أصواتٍ يصدرها للتواصل، أو منطوقهِ الخاص الذي لا نفهمه، لما يتعرّض له من فعل. حتى الجماد، إنْ حرّكته من مكانهِ، أو تمّ اصطدامه بشيء آخر، سوف يصدرُ صوتاً (منطوقه) الخاص بهِ، بحسب حجم الحركة، أو شدّة الاصطدام؛ هذا يعتبر منطوقاً أو صدى للفعل.. وقسْ على ذلك كثيراً من الأمثلة، مثل حركة المجرّات، وصوت الرياح بين الجبال، وانصهار الحِمم “منطوق البراكين”، وتكسّر الأشجار في الغابات…إلخ؛ كلٌ ناطقٌ وله منطوق، إذاً؛ كلّ صوت هو منطوق، وله دلائل وناطق، جماداً كان أو إنساناً أو حيواناً.

الناطقُ والمنطوقُ لا يتشابهان إلا في سوريا، حصراً في موطنٍ معيّن، أو إحدى الظواهر الفريدة، وهذا ليس من ضربِ السخرية أو التهكّم، إنما فعلاً يحصل هذا.

ازدواجية الجماهير والتشظّي في الكراجات

قد تتشابه الكراجات في سوريا؛ إلى حدٍّ ما، تلك التي يتجمّهر فيها الناس، أو يتحلقون داخلها حول الحافلات، كأنهمُ يتفرّجون على حاوٍ يُخرجُ من كيسه القطني “ثعباناً” ناطقاً باسم رئاسة الجمهورية، أو مستشاراً إعلامياً لكهنةِ القصر الجمهوري!، وقد يذهب البعضُ في وصف الكراجات على أنها مكانٌ للترفيهِ أو التعارف، أو.. عدا ذلك؛ ربما تتفاوت الأوصافُ والمعايير لدى أغلبية السوريين، كلٌّ حسبَ محافظتهِ وبلدتهِ.

أما في دمشق، ثمّة كراجات عديدة، لها أسماؤها وميزاتها، وبحسب تباعدها عن بعضها، بين الريف والمدينة، تتغيّر أجواؤها وأمزجةُ مرتاديها وخيالاتهم؛ فعلى سبيل المثال: كراج “العبّاسين”؛ حيث يتمتّع قاصدوه بأمزجة وأفئدة متقلّبة، بناءً على طقس الكراج ” نوع الأغاني، نظافته العامة، غياب أو حضور بائع الكبدة المشوية، تلصُّص أعين المخبرين، شتائم شرطي المرور، رائحة النشادر جرّاء بول الجنود الأغرار على جدران الكراج، فراسة الغجري “سمكري الأسنان” في معرفة الزبائن الذين يحتاجون لتركيب سناً ذهبياً، أو إصلاح فكٍّ أعوج، بائع أوراق اليانصيب المساعد أبو غيهب، الطفل الشقي الذي يبيع البسكويت وهو يمسح مخاطه بطرف كنزته، روث أحصنة بيع المازوت على بوابة الكراج، صورة القائد المفدى (حافظ الأسد) وابنه النابغة”؛ هكذا.. تتقلّبُ أمزجة الناس أمام وداخل الكراج حين يشاهدون أو يكتشفون هذه الميزات التاريخية، ولا يضيرهم شيء إن زادت ميزة أخرى بفعلِ فاعل، أو مصادفة “عن طريق الخطأ”!

نعم.. كراج العبّاسين؛ أنموذج صارخ يُحتذى بميزاته في بعض الكراجات الأخرى؛ لكن لو كان العباسيون من معاصري هذه الظاهرة الممتدة، هل قبلت دولتهم العتيدة برائحة البول وصور حافظ الأسد وطاغية التاريخ المعاصر “بشار الأسد؟”.

أما في كراج شارع الثورة، الذي لم يستطع نظام “الأسدين” تغيير اسمه من (شارع الثورة) إلى اسمٍ ثانٍ، لأن الأخير فعلاً هو “ثورة”؛ شارعٌ فيه جميع الثورات، ابتداءً من ثورة الخضار المكدّسة، إلى ثورة أشرطة أغاني “الكاسيت” والأفلام الممنوعة “إباحياً”، إلى مركز تجمّع ثوّار البؤسِ والمستجديين!؛ وصولاً إلى الثوّار “النشّالين”، الذين لا “يسرقون الكحل من العين”، إنما فقط قوت يومهم من عابرين لم يتقصّدوا العبور إلا بدافع الهروب من ازدحام الناطقين بلهجات ملوّثة بالطمأنينة من الموت.

 وللشارع ميّزات استثنائية، كراجه الذي يُعتبر شرياناً يضخُّ الناس ككريات الدم الحمراء نحو مبتغاهم إلى الأحياء الأخرى، أو بلدات وقرى الريف الدمشقي، منها أنه قريبٌ من “سوق الحرامية”، تلك التي يباع فيها الأثاث والمستلزمات المستعملة، حتى بإمكان قاصدها العثور مصادفةً على نسخة من وثيقة الوحدة بين سورية ومصر، علاوةً على وجبات الطعام السريعة؛ التي إن تناولتها، قد تُصاب بالإسهال القومي لمدة شهر تقريباً، ويعود ذلك ليس فقط لسوء الطعام، إنما لأنّ من يبيع الوجبات تلك؛ هو  على الأرجح عنصر أمن أو مُخبر لفرع ما من المخابرات؛ في أغلب الأحايين!.

عند جسر المشاة المُحدَث منذ سنوات قليلة خلت، في شارع الثورة، يتمرّكز إلى يمينكَ “حمّام القرماني” الأثري، الذي تمّ بناؤه في منتصف العصر العثماني، منذ 350 سنة تقريباً، وعبثت فيه لاحقاً اليد الفاعلة، التابعة للعملاء الفرنسيين وللقوميين الناصريين وجلاوزة حزب البعث (الاشتراكي).. وأصابع بائعي الطيور والسمك، قريباً إليه؛ تجد حافلات الركّاب الصغيرة “السرافيس”، أو حتى متوسطة الحجم، التي تقلّ الناس إلى الأرياف.

في الكراج الذي لم يتسوّر إلا بجدرانٍ بشرية، تستمتع بالضجيج اللانهائي من الأغاني، مع تفرّس في وجوه الناطقين، والإصغاء للمنطوقِ من أفواه الناس، أو صياح الباعة كالديَكة على بضائعهم المتراكمة منذ الفجر، فضلاً عن ظلال القادمين من الفجاج العميقة، التي أحدثها الطاغية حافظ الأسد و”ديْسَمهُ” في خواصر دمشق، والسوريين بذريعة “الحركة التصحيحية”!.   

إنهمُ يستقلّون الحافلات التي توصلهم إلى وجهاتهم اليومية، وكأنها معجزة أليس كذلك؟، في سوريا ليس للمواطن وجهة غير التيه؛ موظفون أو من أحفاد البروليتاريا، وحتى ربما قوّادون أمنيّون يسعون نحو “ضاحية الأسد” لتسليم نسخٍ عن التقارير الكيدية بحق أقاربهم.

للحافلات في شارع الثورة؛ رونقٌ متفرّد يكتنفهُ الألم، وملامح الركّاب قد تبدو مستقرة، يكسوها الاصفرار أو البشاشة، لا لون ثالث ولا تعبير آخر؟! نعم؛ إنها الحياةُ على حدّ النصل، فوق شفرة الوقتِ وسنانِ العيش في إسطبل الأسد! في الحافلة قد يعبث أحد الركّاب المتجهين إلى “غير مقصده” بأمزجة الجميع، حتى السائق، من حيث ثرثرته، أو فضوله، أو نظراته الشبقية نحو فخذيّ فتاةٍ لعوب أو حقيبة عجوز “منتفخة”!.

وقد يطلب من السائق تشغيل أغنية لــ”فؤاد غازي؛ لزرعلك بستان ورود” ليحظى بضوعٍ بارد عوضاً عن سخام عوادم الحافلات، أو درساً حول “عذاب القبر” للدكتور محمد النابلسي، كي ينهل من صنبور الموعظة ويتذكر عقوقه لوالديه، ويثني نفسه الأمّارة “بسوق الحرامية” عن سرقة حقيبة العجوز المنتفخة، ويزدرد ريقه مع النظر نحو النافذة بعيداً عن فخذي الفتاة اللعوب!.

الكراجات في سوريا؛ وطنٌ آخر، له شعبه المؤقت؛ هم غيرهم الآدميون الذين يتجمهرون في الكراجات، يكونون بأمزجة وأنفس مختلفة في بيوتهم أو أحيائهم!.

لا يوجد رئيسٌ للكراجات في سوريا، ولا أعضاء لمجلس العابرين.. لكن يوجد وزير خزانة يجلس وراء السائق، يجمع أثمان تذاكر الركوب، وبذريعةٍ ما؛ يترجّلُ هارباً بمبلغٍ زهيد، بسببه قد تُدمغ على جسده ووجهه أرقام مقاسات أحذية الركّاب، بعد أن يظفروا به على بُعد عشرة أمتار من هروبه.

أما في وصف باقي كراجات سوريا، بين المحافظات؛ سوف نتطرّق إليها في مواد قادمة، قد تتحوّل إلى مشاهد مرئية في مخيّلات السوريين الذين عاصروا إمبراطورية الكراجات السورية!